اللجوء إلى الحسم العسكري في حلب السورية سيشكل شرارة لحرب كبرى، أو مفتاحاً لتسوية كبرى. فللمدينة أهمية استثنائية، والسيطرة عليها تعني الكلمة الفصل في تحديد مسار الأزمة السورية، وإلى حد بعيد، مسار الأزمة العراقية. إذ لا يمكن فصل أحداث حلب عما يجري في الموصل وشمال العراق. المشتركات بينهما كثيرة، والتداخل عميق وممتد يصعب فصمه، وأي قوة تحكم المدينتين ستمسك بعقدة، هي منجم استراتيجي يُمَكِّن من الهيمنة على المنطقة، المكوّنة من المربع التركي الإيراني العراقي السوري.
حلب تشكل امتداداً لتركيا وللعراق، وهي بوابة المناطق الكردية، وقاعدة مهمة للتقدم باتجاه الرقة، وسقوطها يعني سقوط ما يليها على امتداد الجغرافيا السورية. بل يمكن اعتبار أي معركة في حلب نموذجاً مصغراً لأي حرب إقليمية أو دولية قد تنشب. فيها يحضر اللاعبون المحليون والإقليميون والدوليون وحلفاؤهم وداعموهم، إلى جانب كل الأدوات. ولأنها المعركة الأصعب والأخطر، تحاول روسيا وأميركا تفاديها ومنع وقوعها، في المدى المنظور على الأقل. ويصران على تثبيت الهدنة وتعزيزها، لأن سقوطها سيعني سقوط تفاهمات موسكو وواشنطن، والتدحرج نحو مواجهة لا يريدانها. من هنا يأتي تلويحهما بالذهاب إلى مجلس الأمن، في حال فشل مفاوضات جنيف، واستصدار قرار تحت البند السابع بشأن سوريا، لتثبيت مواقع وقواعد اشتباك تمنع حلفاءهما من الذهاب بعيداً في الإصرار على الحسم العسكري.
عدا اتفاق الجميع على منع تنظيم «داعش» من السيطرة على حلب، وإخراجه منها، هم يختلفون على كل شيء تقريباً، وتتناقض مصالحهم، بحيث إن أياً منهم لا يملك مفاتيح الحلول والتسويات. ليس أمام الدولة السورية وحلفائها سوى الحسم العسكري. فحلب العنوان الأبرز لصمود الجيش السوري، والمؤشر الأهم على قوة النظام أو ضعفه. وهي أكبر معاقل الجماعات المسلحة. تحريرها، وما يترتب عليه من تداعيات، سيكون الورقة الأقوى بيد النظام، في مفاوضاته مع المعارضة وداعميها الدوليين والإقليميين. وتحريرها سيضعف قدرة واشنطن على الضغط على دمشق، وعلى حلفائها. أما خسارتها، فتعني توازنات جديدة تُدخِل الجماعات المسلحة إلى تركيبة الدولة، على قدم المساواة مع النظام. من حلب يبدأ مشروع تقسيم سوريا، أو يفشل فيها. إن انتصاراً فيها سيعزز قوة «حزب الله» بانعكاسه المباشر على لبنان. وسيخفف الضغط المتصاعد على «الحشد الشعبي» في العراق، ويفرض حضوره في أي معركة لتحرير الموصل الاستراتيجية، ويوقف محاولات ضربه وتفكيكه، التي ظهرت أخطر مؤشراتها في معارك طوزخرماتو بكركوك.
حلب، عقدة أساسية بالنسبة للكرد في سوريا وتركيا والعراق، ونقطة ارتكاز لقواتهم للسيطرة على الرقة والموصل، الضروريتين لحماية أقاليمهم، أو دولهم التي يسعون لإقامتها. وهو ما ترفضه تركيا، وتعمل على منعه بكل الوسائل. وأنقرة تخشى وصول الحرب إلى أراضيها، إذا وصل الجيش السوري إلى حدودها، عبر تطويقها بحزام من القوى غير الصديقة، ما سيضع المنطقة الكردية على جانبي الحدود تحت النفوذ الروسي، ويفاقم مشكلة كرد تركيا ويضاعف قوتهم. تركيا تسعى إلى تحويل حلب وأريافها منطقة عازلة بينها وبين الجنوب، وممراً إليه في الوقت نفسه. وهي تعتبرها ضرورية لإقامة منطقة آمنة، أو جزءاً من خط للدفاع.
إسرائيل تفضل استمرار الوضع القائم على التدمير المتبادل بين الدولة السورية وحلفائها من جهة، والجماعات المسلحة وداعميها من جهة اخرى، لضمان عدم مبادرة أي منهم إلى التحرك ضدها. بينما يشكل تحرير حلب نقطة تحول حاسمة، ستشجع النظام على تركيز جهوده جنوباً، وعلى حدود الجولان. مع ما يعنيه ذلك من حضور لـ «حزب الله» وإيران وقوى المقاومة في تلك المناطق، وما قد ينجم عنه من تهديد للاحتلال. وهو ما سيخرج إسرائيل من حالة الحياد الوهمي المفتعلة، لتُعمِّد تحالفها مع السعودية وتركيا بالنار في الميدان.
الصراع يشتد خلف الستار بين روسيا وحلفائها الإيرانيين و «حزب الله»، وهو، في الوقت نفسه، يستعر بين الجماعات المسلحة وداعميها من جهة، وواشنطن من جهة أخرى. موسكو حريصة على الالتزام بالمصالح الأميركية، التي تقتضي بقاء حلب خارج إطار الحسم العسكري حالياً، وعدم الإخلال بموازين القوى لمصلحة أي طرف محلي أو إقليمي. وحساسية المنطقة دفعت الروس إلى إعلان الهدنة في ذروة المعركة، لتُوقِفَ هجومَ حلفائها قبل تمكنهم من حصار المدينة، مراعاةً لخطوط واشنطن الحمراء.
في المقابل، تدرك واشنطن أن التنافس بين القوتين العظميين، على درجة عالية من الحساسية والخطورة، ويستدعي تنسيقاً دقيقاً لعمليات الطرفين، تفادياً لأي كارثة شاملة تبدأ من سوريا. لم يكن هدف تدخل موسكو وواشنطن في سوريا، إلحاق الهزيمة بـ «داعش» فقط، بل جاء للحد من نفوذ القوى المحلية والإقليمية وإضعافها، بهدف إعادة تقسيم سوريا والعراق إلى مناطق سيطرة للجانبين، وإعادة النظر في خرائط «سايكس ـ بيكو».
معركة حلب هي الأصعب في الإقليم، خلطت التفاهماتُ الأميركيةُ الروسيةُ أوراقها، وأعادت إلى الواجهة تعقيدات إقليمية ودولية، تجعل من الحسم العسكري أمراً في غاية الصعوبة. وتشترط واشنطن وموسكو وجود اتفاق سياسي قبل أي هجوم، سواء في حلب أو الموصل. كما بات مستحيلاً إنجاز أي اتفاق أو تسوية، يعتبرها أي منهما تهديداً. لكن هل يمكن ان تُحَلّ بالسياسة أزمة تحمل كل تعقيدات الأزمة السورية ومخاطرها وحساسياتها، من دون فعل ميداني كبير، يرسم خريطة الطريق، ويحدد المسارات؟
-------------------------------
* نقلا السفير اللبنانية، 14-5-2016.
رابط دائم: