ينوي حلف شمال الأطلسي نشر أربع كتائب عسكرية في أوروبا الشرقية، لتعزيز وجوده في بولندا وجمهوريات البلطيق. وكان وزير الدفاع الأميركي، أشتون كارتر، قد أعلن من ألمانيا مؤخراً عن هذه النية، قائلاً: «نحن نشارك في هذه المناقشات، ولا أريد استباق الأحداث». وفي حال اتخاذ مثل هذا القرار، فمن المفترض أن يبلغ تعداد قوات الحلف في أوروبا الشرقية نحو 4 آلاف عسكري. ومن المتوقع أن تشارك الولايات المتحدة بكتيبتين، وكل من ألمانيا وبريطانيا بكتيبة واحدة. وكان كارتر قد أعلن في اجتماع وزراء دفاع دول حلف شمال الأطلسي نهاية العام الماضي عن تخصيص 3.4 مليارات دولار لنشر لواء إضافي للولايات المتحدة في أوروبا الشرقية، وكذلك أسلحة وآليات حربية.
يتواكب كل هذا مع مناورات، بدأها حلف «الناتو» في الثاني من أيار الجاري، تحت اسم «عاصفة الربيع» في إستونيا على مقربة من الحدود الروسية، وبمشاركة 6 آلاف عسكري يمثلون 11 دولة. وتشارك في هذه المناورات، التي تستمر حتى التاسع عشر من الشهر الجاري، فنلندا والسويد أيضًا. ورحّب ياروسلاف كاتشينسكي، زعيم حزب «القانون والعدالة» الحاكم في بولندا، بنشر قوات «الناتو» في أوروبا الشرقية. كما شعرت دول البلطيق السوفياتية السابقة، لاتفيا وليتوانيا واستونيا، بالارتياح الشديد حيث كانت تدعو الناتو والولايات المتحدة منذ اشتعال الأزمة الأوكرانية إلى مواجهة ما تُطلق عليه الخطر الروسي والطموحات الإمبراطورية الروسية. واللافت أن هذه التطورات تأتي بعد أيام قليلة من اجتماع «روسيا ـ الناتو»، والذي لم يتمكن من تقريب وجهات النظر بينهما في الكثير من القضايا. كما تأتي في ظل «التحرش العسكري» بين الجانبين في بحر البلطيق.
على الفور سارعت وزارة الدفاع الروسية، على لسان وزير الدفاع سيرغي شويغو، إلى القول «إن روسيا تتخذ عدداً من الإجراءات لمواجهة زيادة قوات حلف شمال الأطلسي على مقربة مباشرة من الحدود الروسية». والحديث يدور، هنا، عن تشكيل فرقتين عسكريتين جديدتين في المنطقة العسكرية الغربية، وفرقة ثالثة جديدة في المنطقة العسكرية الجنوبية قبل نهاية العام الجاري لمواجهة توسع «الناتو». ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد اقترح نائبان برلمانيان روسيان نشر صواريخ روسية في كوبا لحماية مصالح روسيا وحلفائها الأعضاء في منظمة الأمن الجماعي. وهو ما قد يُذكّر بأزمة الصواريخ السوفياتية، التي نُصبت في كوبا عام 1962.
وكان الأمين العام لحلف «الناتو» قد اتهم روسيا في آذار الماضي بالعمل على تخويف جيرانها بشتى الوسائل، معرباً كذلك عن قلق الغرب من زيادة الوجود العسكري الروسي في سوريا وشرق البحر الأبيض المتوسط. ومن جانبها، تتهم موسكو الحلف بالعمل على حصارها وتهديد أمنها القومي بتعزيز وجوده العسكري في وسط وشرق أوروبا. وفي شهر شباط 2016، وافق وزراء دفاع الحلف على تسريع تنفيذ برنامج يسمى «الدفاع في القرن الحادي والعشرين» لردع روسيا. ويتضمن هذا البرنامج إنشاء مقار قيادة وترسانات جديدة للأسلحة في أوروبا الشرقية ومرابطة وحدات عسكرية أميركية أكبر في القارة الأوروبية بهدف الضغط على موسكو مع استبعاد مواجهة واسعة النطاق معها. ويستند هذا البرنامج إلى تخوّف دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الحلف مما تُطلق عليه «الغزو الروسي» المحتمل بعد أحداث أوكرانيا والقرم وسوريا. وتشير واشنطن إلى أن الأسلحة الجديدة ستُنشر في غرب أوروبا، بحيث تسمح شبكات النقل ومستودعات الأسلحة بنقل الوحدات العسكرية بسرعة الى أي نقطة وليس الى شرق أوروبا وحدها. واعتبرت موسكو أن قرار بروكسل القاضي بنشر قوات الردع في أوروبا يُعدّ انتهاكاً لوثيقة التعاون مع روسيا الموقعة في العام 1997، والتي تنص على عدم نشر قوات عسكرية لـ «الناتو» في أراضي الأعضاء الجدد. ولكن البنتاغون يقول إن هذه الوثيقة لا تمنع تحسين البنية التحتية للحلف، مُشيرا إلى أن القسم الأكبر من الأسلحة سيكون في غرب أوروبا.
إن المسيرة التاريخية لعلاقة موسكو مع حلف «الناتو» تتسم بالتعقيد والتوتر. فمن المعروف أنه بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في العام 1949، قرّرت الولايات المتحدة تأسيس «حلف شمال الأطلسي» كتكتل سياسي ـ عسكري في مواجهة الاتحاد السوفياتي. ويشير مؤرخون روس إلى أن موسكو حاولت في البداية اختبار نيات الغرب، حيث طرح ستالين فكرة عضوية الاتحاد السوفياتي في هذا الحلف. وكرر نيكيتا خُروتشوف الفكرة نفسها في الخمسينيات من القرن العشرين، إلا أن قيادة الحلف رفضت هذه الفكرة في حينها. ولم ينتظر الاتحاد السوفياتي طويلاً، حيث أسس حلف «وارسو» في العام 1955.
في الأعوام التالية لانهيار الاتحاد السوفياتي، عادت قضية العلاقة بين روسيا و «الناتو» إلى الواجهة مجدداً، وارتفعت حدة التوتر بينهما بعدما أعلن «الناتو» عن برامجه التوسُعية. ومع ذلك، وقعت موسكو مع الحلف في العام 1997 «ميثاق باريس»، الذي سمح بانضمام بولندا وتشيكيا والمجر إلى صفوف «الناتو». ويشير مراقبون روس إلى أن روسيا في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين كانت لديها رغبة ما للالتحاق بعضوية «حلف شمال الأطلسي»، ولكنها كانت تريد عضوية ذات وضعية خاصة. وبعد انتخابه للولاية الرئاسية الأولى في العام 2000، لم يستبعد فلاديمير بوتين انضمام روسيا إلى حلف شمال الأطلسي بشرط تمتُع بلاده بوضع متكافئ داخله. وفي العام 2002، جرى التوقيع على «إعلان روما»، الذي تأسس بموجبه مجلس «روسـيا ـ الناتو»، ومن ثم واصل الحلف ضم المزيد من دول المعسكر الاشتراكي السابق إلى صفوفه.
إن التوتر بين الجانبين لم يمنع تعاونهما، مثلاً، في أفغانستان. فبرغم رفض روسيا توسع «الناتو» نحو حدودها، وقعت موسكو مع الحلف في العام 2008 اتفاقيات لنقل الشحنات العسكرية وغير العسكرية إلى قواته في الأراضي الأفغانية. غير أن هذا التعاون توقف على خلفية الأزمة الأوكرانية وانضمام القرم إلى الاتحاد الروسي، ليعود التوتر بينهما إلى الواجهة مجدداً.
------------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 6-5-2016.
رابط دائم: