في ذروة النصر فتح سجل الهزيمة، وهناك بالذات دخل الجولان سجن الاحتلال بعد أن كان في قبضته.
كان ذلك يوم خطب الرئيس المصري «أنور السادات» في 16 أكتوبر/تشرين الأول 1973 ملوحاً بالسلام حاسراً ذراع الحرب. وفي الحروب عادة يملي المنتصر شروطه ولا يقدم وعداً بالسلام. تلك حالة نادرة لها علاقة بما جرى خلال أربعين سنة وبما يحصل اليوم، لكن صلتها وثيقة بإعلان «نتنياهو» من الجولان أنها جزء من «إسرائيل» وإلى الأبد.
وفي بعض التفسيرات أن الإعلان يسبق تفاهماً أمريكياً روسياً حول سوريا، أو أنه إشارة تسبق لقاء تم بين رئيس الحكومة «الإسرائيلية» والرئيس الروسي، أو أن سوريا مقبلة على تقسيم تقول فيه «إسرائيل» إن الجولان يجب ألا يحشر في أي نطاق ولا في أي حساب لأنه لم يعد عربياً ولا سورياً.
وفي أرجح الظنون أنه التقاط لحظة لتأكيد المؤكد من وجهة النظر «الإسرائيلية»، وإبلاغ العالم بالالتزام بقرار اتخذته حكومة «اسحق شامير» في 1981 بضم الجولان إلى «إسرائيل». واللغة لا تحتمل اللبس فقد قال «نتنياهو» بأن الجولان ستظل جزءاً من «إسرائيل» بما يعني أنها كانت من قبل. وإذا كانت الحكومات «الإسرائيلية» المتعاقبة قد حاولت بعد ذلك القرار التوصل إلى تسوية مع سوريا فليس من أجل التخلي عن الجولان وإنما لانتزاع اعتراف دمشق وتأمين الجبهة الشمالية على الغرار الذي تحقق عند الجبهة الجنوبية مع مصر. ومهما كتب وقيل عن وديعة تركها «إسحق رابين» بما فيها ما أورده الرئيس الأمريكي الأسبق، «بيل كلينتون» في مذكراته فإن المرء لا يحتاج إلى النباهة والتفكير السياسي السليم ليصدق أن الصراعات والعلاقات الدولية تدار وتحسم بالوصايا والودائع. وإذا ما ثبت أن هناك بالفعل شيئاً اسمه وديعة رابين فوراءها بالتأكيد معرفة يقينية بسذاجة الأنظمة العربية وربما بالعقل العربي. وما يمكن التعامل معه بالتفكير هو العرض الذي قدمه «نتنياهو» في ولايته الأولى وحملها المبعوث الأمريكي «جورج ميشيل» وتضمنت استعداد «إسرائيل» للانسحاب إلى خط السلسلة الجبلية التي تبعد اثنين كيلومتر ونصف من نهر الأردن بما يعني احتفاظها بضفتي النهر وبحيرة طبرية، وبما يتيح لقواتها العودة للسيطرة على الهضبة إذا قررت وادعت أن هناك خطراً يتهددها. ولم يكن هذا تنازلاً مجانياً مقيداً بشروط يصعب القبول بها، وحتى من دونها فإن القيادة السورية لم تكن مستعدة للموافقة على انسحاب «إسرائيلي» إلى أقل من حدود 4 يونيو/حزيران 1967. ولقد كان في السخرية أن العرض «الإسرائيلي» حمل وعداً لسوريا بمكافأة تساوي مكافأة السادات باتفاقية سلام مع «إسرائيل».
إنها سخرية مريرة ومهينة.. والحال أن نية البقاء في الجولان كانت واضحة من بداية احتلاله، فإن «إسرائيل» لم تكتف بالوجود العسكري بل عمدت إلى الاستيطان حتى تساوى عدد المستوطنين بالسكان الأصلين (20 ألف مستوطن و20 ألف سوري).
وقد تبين من اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين أن تفكيك المستوطنات خرافة غير قابلة للتحقق، وحل بدلاً عن ذلك «خريطة الطريق». هذا المصطلح الذي اخترعه الوسيط الأمريكي وتلقفه العرب وراحوا يستخدمونه في أدبياتهم السياسية معتقدين أن هناك خرائط طرق تتضمن حلولاً سحرية لجميع المشاكل، مع أنه في منشئه وفي مدلوله حيلة استهدفت دوام الاحتلال ومنع قيام دولة للفلسطينيين وتحويل السلطة إلى مجلس إدارة «كانتونات» مسورة بأشواك المستوطنات والطرق إليها. ثم تبخر العرض مع التطورات المخيفة في المنطقة وفي سوريا بالذات.
إنه إيغال في السخرية يعيدنا إلى ذلك اليوم من أكتوبر/تشرين الأول 1973. صحيح أن الانتصار العربي لم يكن ساحقاً، غير أن الهزيمة «الإسرائيلية» كانت ماحقة، خصوصاً أنها المرة الأولى التي تتجرع مرارتها، ومن غير إسقاط فواجع حرب الاستنزاف.
ومنذ نشأتها ظلت «إسرائيل» تطلب الأمن وتنشد الاعتراف وذلك كان الثمن الذي طلبته أمريكا من مصر مقابل تمويل بناء السد العالي. ولم تكن مصر مستعدة أن تخسر نفسها ولا كانت راضية بالتخلص عن القضية الفلسطينية.
ثم كان من المهازل أن تتحول الرغبة «الإسرائيلية» إلى عرض من مصر بلسان رئيسها، وأن يتطور العرض إلى طلب ثم إلى رجاء، وإلى رجاء ملح بزيارة القدس وأخيراً «كامب ديفيد».
فيما بعد سرت العدوى إلى الأنظمة العربية التي بدأت بتجميد عقوبة مصر في الجامعة وقطع العلاقات معها وانتهت إلى التعلق بأهداب السلام (!) واستجداء التسوية بأي شروط وبأية أثمان وأياً ما كان العائد السلمي على استقلال البلدان العربية وعلى كرامتها.
والآن بعد هذا البحث الدائب والطويل عن سلام ضائع يخرج «نتنياهو» لسانه للعرب وللعالم.
الآن يطل الجولان من عذابه القديم، وتطل سوريا من وجعها الطازج.
فما الذي سيفعله العرب؟ ما العمل؟ ليس سؤال لينين وإنما.. سؤال الحيرة.
-----------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 27-4-2016.