مازال التقدم نحو حل الأزمة الليبية صعباً رغم انتقال المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق ومعظم أعضائها إلى طرابلس. النواقص السياسية الدستورية في تشكيل هذه الحكومة ليست قليلة. والعقبات الواقعية التي تعترضها أكثر. لكن الدعم القوي الذي تلقاه من الأمم المتحدة، والتأييد المتفاوت الذي تحظى به من القوى الدولية والإقليمية، يوفران أساساً لمواصلة الجهود التي أتاحت التحرك خطوة إلى الأمام بعد خمسة شهور على تعيين المبعوث الدولي الحالي مارتن كوبلر في 17 نوفمبر 2015.
لم يهدر كوبلر العمل الذي بدأه سلفه برناردينو ليون من خلال الحوار السياسي الذي صار يُعرف بـ«مسار الصخيرات». كان هذا الحوار نتيجة تراكم جهود بدأها المبعوث الأول طارق متري، وقامت على منهج «التجربة والخطأ». وتبنى كوبلر صيغة جديدة تعتمد على خلق حقائق على الأرض بموازاة الحوار السياسي، أملاً في أن يؤدي ذلك إلى إنجاز ما لا يمكن تحقيقه عبر النقاش وحده. لذلك قرر الشروع في تشكيل حكومة الوفاق ومحاولة جعلها أمراً واقعاً قبل إكمال مستلزماتها الدستورية والقانونية. وسعى إلى إيجاد ترتيبات أمنية تتيح وصول أعضائها إلى طرابلس، وتشمل كسب ولاء قوى ومليشيات محلية.
لذلك أمكن تجنب خوض معارك وإراقة دماء خلال عملية دخول ممثلي الشرعية الجديدة المدعومة دولياً طرابلس، وتعزيز سلطتها فيها يوماً بعد آخر خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة.
غير أن وجود حكومة الوفاق في طرابلس لا يعني أن حل الأزمة الليبية صار مضموناً. فلهذا الوجود أهمية رمزية فائقة. فهو يوجه رسالة قوية إلى مختلف الفرقاء بأن الطريق إلى الحل صار واضحاً، وأن لكل منهم مصلحة في إكمال خطوات هذا الحل.
لكن التجربة المُرّة لجهود الوساطة خلال الفترة الماضية تفرض التزام أقصى درجات الحذر، وعدم الإغراق في التفاؤل، والتفكير في كيفية تحصين الخطوة المتحققة لتجنب انتكاستها، والبحث عن صيغة يمكن لمعظم الفرقاء قبولها.
إن طرابلس مهمة للغاية كونها عاصمة الدولة التي صار إنقاذها ممكناً. لكن ليبيا دولة مترامية الأطراف لا تمثل طرابلس إلا جزءاً يسيراً فيها مهما كانت أهميتها. كما أن التكوين الاجتماعي الليبي ينحو بطابعه إلى التفتت أكثر من التوحد نتيجة كثرة القبائل، وتباعد المسافات بين المدن والبلدات، والفواصل الصحراوية الشاسعة بين مناطق التمركز السكاني.
وعندما نفكر في هذا النوع من التكوين الاجتماعي، في ضوء الصيغة التي تقوم عليها جهود حل الأزمة، وهي تقاسم السلطة، لابد أن نتحلى بأكبر قدر من الواقعية السياسية. لذلك لا يجوز أن نستبعد من البداية خيار النظام الفيدرالي لمجرد أن بعض التيارات القومية العربية رسمت صورة زائفة له جعلته إحدى صيغ تقسيم الدولة.
وما أبعد النظام الفيدرالي عن هذه الصورة، كونه أحد أشكال اللامركزية الواسعة نسبياً فيما يتعلق بإدارة الشؤون الداخلية الاقتصادية والاجتماعية لوحدات الدولة، في ظل وجود مركز يحدد الاتجاه العام للسياسات المتبعة في هذه الشؤون دون تفاصيلها الصغيرة، ويستأثر بإدارة قضايا السياسة الخارجية والدفاع والأمن القومي. ويأخذ أكثر من ثلث دول العالم الراهن بالنظام الفيدرالي المتبع أيضاً في بعض أكثرها تقدماً، مثل الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا.
ولا ننسى أن ليبيا نفسها كانت دولة فيدرالية عقب استقلالها وحتى استيلاء معمر القذافي على السلطة عام 1969.
غير أنه لدى طرح هذا الخيار في ليبيا مجدداً، ينبغي عدم إغفال الواقع الجديد الذي يفرض وجود عدد من الوحدات الفيدرالية أكبر من الثلاث السابقة (طرابلس وبرقة وفزان) لضمان الانسجام داخل كل وحدة.
لقد سنحت فرصة تاريخية لإنقاذ الدولة الليبية، وصار التمسك بها فريضة لأنها قد لا تتكرر إذا أفلتت هذه المرة. لذلك لا يصح أن تبقى مفاهيم مشوهة عائقاً أمام التفكير في صيغة تتيح استثمار هذه الفرصة وإكمال حل الأزمة في أقصر وقت ممكن. وإذا لم يفكر كوبلر ومساعدوه في الصيغة الفيدرالية، ليت حكومة الوفاق ومجلسها الرئاسي تأخذ زمام المبادرة في طرحها.
----------------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، 20-4-2016.