شهدت السنوات الأخيرة فورة ملحوظة في إصدار وتطوير مقاييس ومؤشرات الأداء وترتيب الفاعلين من الدول وغير الدول في مختلف المجالات الأمنية العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والثقافية، والفنية، وغيرها. وواكب ذلك زيادة مماثلة في الأدوار والقوة المعيارية للجهات المصدرة لهذه المقاييس، لاسيما علي ضوء تعبير مختلف الفاعلين عن اهتمامهم بهذه المؤشرات والمقاييس (دون إنكار تنوع استجاباتهم لها)، بحيث أصبح من الممكن الحديث عن "سياسات الترتيب والتقييم الدولية" كمجال بحثي جديد.
وتسعي هذه الورقة لتقديم قراءة أولية في الموضوع من خلال إطلالة عامة حول ماهية المقاييس، وتصنيفاتها، وتطورها، وعوامل تزايد الاهتمام بها، ثم وظائف المقاييس، مع التركيز علي أنماط وآليات تأثيرها في سلوك الوحدات الدولية، واستجاباتها لها، وأخيرا بعض إشكاليات صياغة المقاييس، وتوظيفها، وتأثيراتها.
أولا- ماهية المقاييس .. الدوافع والتطور:
يمكن تعريف المقاييس بحسبانها تجميعا -بأوزان نسبية تقديرية معينة- لمؤشرات وبيانات ترتيبية، أو رقمية حول سمات وخصائص مختلف الفاعلين والوحدات، سواء في الماضي أو الحاضر، أو حتي التوقعات المستقبلية لها. وتمثل المقاييس -في أصلها- محاولة لتيسير بحث الظواهر المعقدة والمقارنة بينها عبر المكان والزمان، من خلال تنظيم عرض البيانات والمعلومات بتصنيفها في فئات محددة للقضايا أو الممارسات المختلفة، والتعبير عنها في صيغة مؤشرات رقمية أو ترتيبية معينة. ورغم أن أحد أهداف المقاييس الأساسية هو زيادة الدقة في التحليل والمقارنة، فإن المقاييس بحكم طبيعتها تقوم علي اختزال الظواهر بالتركيز علي أبعاد معينة بحسبانها الأكثر أهمية أو تمثيلا للمتوسط السائد، مقارنة بغيرها، فضلا عن تجريد الظواهر من خصوصيات السياقات المحلية الاجتماعية والثقافية لتيسير المقارنة بينها، وخلق لغة "فنية" مشتركة للتواصل بين مختلف الأطراف، سواء كانوا المتخصصين، أو صناع القرار، أو العامة بدرجات مختلفة من التجريد.
وتكشف الدراسات عن دوافع أخري متعددة لإنشاء المقاييس وإنتاجها بحيث تتضمن دوافع مالية (في صورة جني عوائد مادية مباشرة من قبل الوحدات التي يتناولها المقياس، أو الأطراف المهتمة بقياس أداء هذه الوحدات من رجال أعمال ومؤسسات بحثية مثلا، أو في صور غير مباشرة مثل الاستجابة لمطالب المحاسبة والمساءلة أمام الجهات المانحة للمؤسسات المعدة للمقاييس)، أو دوافع مرتبطة بتعزيز السمعة والمكانة (حيث يساعد إصدار المقاييس في إكساب الفاعل سمعة إيجابية قد تيسر مشروعات وأنشطة أخري للفاعل، أو تزيد قدرته علي النفاذ إلي المعلومات، وممارسة أشكال مختلفة من النفوذ والتأثير)، أو دوافع أيديولوجية، أو قيمية (حيث يرتبط إصدار المقياس بالدفاع عن قيم معينة، والترويج لسياسات معينة)، أو دوافع بحثية معرفية (حيث يستهدف المقياس الإسهام في تطوير المعرفة حول مناطق، أو دول، أو قضايا معينة). ويمكن كذلك إضافة دوافع ذات صلة بخدمة السياسات، حيث تساعد المقاييس في توجيه وإرشاد (أو تبرير) سياسات أطراف معينة وقراراتها، سواء الدول في قرارات تخصيص المساعدات، أو حتي التدخل العسكري، أو المنظمات الدولية أو الشركات في تعيين وجهات الاستثمار وغيرها. كما قد يتم إصدار مقاييس جديدة نتيجة عدم الرضا عن تلك القائمة، أو السعي لمواجهة تأثيراتها السلبية في الفاعل، من خلال طرح مؤشرات بديلة تظهر الفاعل في صورة أفضل.
رابط دائم: