حينما كتب تشارلز ديكنز في منتصف القرن التاسع عشر روايته «قصة مدينتين» عن باريس إبان الثورة الفرنسية، ربما كان يسجل حالة حادة من الاستقطاب التي تجرى فيها عملية فرز تاريخية كبرى بين وجهين للحقيقة لا مفر من تصادمهما. الفكر السياسى عبر عن ذلك من خلال ما عُرف بالمادية الجدلية التي حاول من خلالها كارل ماركس الكتابة عن تطور المجتمعات تاريخيا من خلال التفاعل بين المتناقضات التي يأتى تصادمها ساعة ثورة كبرى، وربما حرب أهلية أو عالمية، أو بزوغ حالة من التخصيب المتبادل الذي ينتج واقعا جديدا لم تعرفه الدنيا من قبل. بالطبع فإن هذا المكان ليس مخصصا للفلسفة السياسية، ولكن هذه لابد منها لقراءة الواقع الذي نعيشه، والذى حدث عن غير قصد أنه كان في الولايات المتحدة، وفى مدينة هيوستون بولاية تكساس الجنوبية تحديدا، وأثناء الحملات الانتخابية التمهيدية لاختيار مرشحى الحزبين الجمهورى والديمقراطى للرئاسة الأمريكية.
ولتحرير الأمر فقد عرفت أمريكا بشكل قريب خلال ما يقرب من أربعين عاما منذ عام ١٩٧٧ حينما ذهبت للدراسة في ولاية إلينوى بمنطقة وسط الغرب. وبحكم المهنة- العلوم السياسيةـ أصبحت السياسة الأمريكية جزءا من الاهتمام، أما السياسة الخارجية الأمريكية فباتت جزءا من التخصص. وخلال هذه الفترة شاهدت واستمعت وحاورت وتابعت الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي تأتى كل أربع سنوات، كما لو كانت نوعا من دورات الكواكب والنجوم التي تمر في موعدها المقدر. وأعترف بأن الانتخابات الراهنة، والتى لاتزال حتى الآن تمهيدية، تعبر عن أمرين: أولهما، كما سوف نوضح، تعبير عن الثورة التكنولوجية المعاصرة، وثانيهما التعبير عن تناقض حاد داخل الساحة السياسية الأمريكية، يقطع ويتصارع، ويتصادم، على جميع الجبهات بين الداخل والخارج، بين الشمال والجنوب، وبين السواحل والقلب، وبين البيض والأقليات، وبين العلمانيين والمتدينين، وبين المحافظين والتقدميين، وبين بقايا الثورة الصناعية والتكنولوجية الأولى والثانية وتلك الثالثة والرابعة.
هنا لم تعد الانتخابات تعبر عن لحظة اختيار لرئيس جديد يعلم الجميع أنه سوف يأتى من تلك المساحة الوسط التي يتداخل فيها الحزبان الجمهورى والديمقراطى، ويرقص على أطرافهما أقليات هامشية من الفاشيين على اليمين (دونالد ترامب وتيد كروز)، وحتى الاشتراكيين أو من يسمون أنفسهم التقدميين على اليسار (بيرنى سوندورز). ما حدث هو أن الهامشيين سرعان ما دخلوا لكى يحتلوا وسط اليمين من ناحية، ووسط اليسار من ناحية أخرى، ومع هذا الاحتلال بدأ التوتر السياسى في التصاعد. هذا التوتر لم يولد فجأة، والمرجح أنه حدث مع فوز جورج بوش الابن على آل جور في مطلع الألفية حينما اندفع البندول الأمريكى نحو اليمين، ثم بعد ذلك عندما جرى انتخاب باراك أوباما الذي أخذ بالبندول يسارا. وفى خطابه الأخير عن حالة الاتحاد في يناير الماضى انتقد أوباما نفسه بأنه فشل في التعامل مع حالة الاستقطاب السياسى في البلاد (أعلنت عن نفسها في فشل الموافقة على ميزانية الدولة من خلال الكونجرس، ومعها تم وقف الحكومة الفيدرالية عن العمل حتى تم الاتفاق على إجراءات مؤقتة!). لم يكن انتخاب أوباما حلاً لتناقضات تاريخية عميقة، بقدر ما أصبح بداية تناقضات جديدة أكثر عمقا لأنها تمر عبر الأعراق والطبقات الاجتماعية والمواطن الجغرافية. لم يحدث من قبل أن جرت الانتخابات الأمريكية التمهيدية الحالية أو العامة القادمة كما تجرى الآن. الموسم الانتخابى بدأ مبكراً بأكثر مما جرى في أي مرة سابقة، حيث بدأ في شهر يونيو من العام الماضى وفى عنفوان كبير، واستمر حتى الآن، ومن المرجح أنه سوف يستمر حتى الانتهاء من انتخاب الرئيس في شهر نوفمبر المقبل. وليس مستبعدا إطلاقا أن تنتهى الانتخابات، ولكن حالة التوتر الناجمة عنها سوف تستمر لفترات أطول. من ناحية فإن بصمات الثورة الصناعية التكنولوجية الرابعة جلية وواضحة كما وصفها كلاوس شواب في مجلة «الشؤون الخارجية»، في يناير الماضى، بأنها تتصف بالسرعة الفائقة Velocity، واتساع المجال Scope، والتأثير العميق على النظم Systems الكبيرة كالرأسمالية، والحكومة، والشعوب. فمنذ بدأ الصدام الانتخابى حتى الآن لا توجد بادرة على أن حالة من الإرهاق الانتخابى قد حدثت، وعلى العكس فإن نسبة إقبال الناخبين على التصويت غير مسبوقة، وفى أماكن كانت نسبة الزيادة تتعدى ١٠٠٪، وكان سبب ما أتى به من جمهور ترامب على اليمين، وسوندورز على اليسار. كلاهما أتى بشباب غاضب لأنه لا يعرف إلى أين تذهب أمريكا، وعمال صناعة لا يقلون غضبا لأن قدرتهم على المنافسة في سوق عالمية واسعة أصبحت محدودة. اليمين غاضب لأن أمريكا فتحت حدودها لمن سوف يغيرون من طبيعتها، ولأنها تنازلت كثيرا ليس فقط للأعداء والخصوم، وإنما للحلفاء أيضا. واليسار غاضب لأن شارع المال، وول ستريت، والشركات الكبرى باعت أمريكا في سوق العولمة. وعندما يغضب اليمين واليسار إلى هذه الدرجة على «المؤسسة»، ديمقراطية كانت أو جمهورية، فإن مساحة الوسط تتآكل بشدة.
العملية الانتخابية التي هي آلية الديمقراطية ليست فقط لضمان المنافسة، وإنما في الأساس لضمان التوافق على العيش المشترك، تصبح أداة صب الزيت على النار، خاصة عندما تصير «الشعبوية» وليس السياسات أساس البحث عن الأصوات. لقد عرفنا من قبل الكثير عما عُرف بصناعة الرئيس، وما يواكبها من معرفة بالحملات الانتخابية، والمحترفين في كتابة الخطاب السياسى، والآن صار ذلك أكثر تعقيدا، فحتى «الشعبوية» انحدرت لكى تصير «السوقية» أساسا للخطاب العام، والتطرف في المواقف بديلا للسياسات العامة، وشخصنة السياسة مدخلا للمنافسة فتصبح صراعا. النتيجة أننا نجد أنفسنا أمام قصتين، أو روايتين، عن الحالة الأمريكية: قصة هيلارى كلينتون التي لاتزال تتشبث بخطاب الوسط فترى أمريكا مزدهرة لأنها تحت الإدارة الديمقراطية خرجت من الأزمة العالمية المالية والاقتصادية الكبرى، وباتت المنقذ للاقتصاد العالمى، ومركزا للإبداع والابتكار، فتراجعت معدلات البطالة إلى أقل درجاتها، وبات التضخم عند أدنى معدلاته، وانتصرت أمريكا في معركة الطاقة، وهكذا مؤشرات. وقصة ترامب وسوندورز (لاحظ التقاء اليمين واليسار) التي تقوم على الحالة الكارثية للولايات المتحدة الذي يجعلها تتراجع وتُسرق من دول ممتدة بين اليابان شرقا والمكسيك غربا. ما يترتب على القصتين من سياسات تتناقض بقوة ما بين بناء المزيد من الجسور مع العالم الخارجى إلى بناء الأسوار، وما بين التفاعل والتعاون من أجل مواجهة أخطار مشتركة أهمها الإرهاب والانبعاث الحرارى للكوكب الذي نعيش فيه، والمواجهة مع العالم، سواء بالقوة المسلحة أو انتزاع أثمان فاحشة من الحلفاء والأصدقاء قبل الأعداء والخصوم.
الجديد في المعركة الانتخابية أنها صارت معركة بحق، وليس على سبيل الاستعارة، ولأن المعارك تقوم على المعلومات فإن قاعدة المعلومات الانتخابية تكاد تبحث حتى آخر حى في الولاية، وربما كان الهدف هو الوصول إلى الصفات والميول الخاصة بكل ناخب. الاندماج الهائل بين هذه القاعدة وجميع وسائل التواصل الاجتماعى مع التليفزيون والمواقع الإلكترونية والعمل معا في سرعة فائقة تغير من طبيعة الزمن كما نعرفه، فما حدث بالأمس يصير فورا كما لو كان ماضيا بعيدا، أما أمس الأول فقد صار تاريخا سحيقا. النتيجة، لدى ترامب بالتأكيد، هي انتهاء الخطاب السياسى كما نعرفه، فالعصر صار الارتجال، وربما كان المؤكد أن سوندورز بالغ التهذيب، ولكن عزفه على أنغام الصراع الطبقى يفضى إلى تفاصيل عمليات هدم، ولكنها لا تفشى شيئا عن البناء بعدها، ولا النظم التي سوف تحل محل النظم المدمرة. وسط ذلك تبدو «المؤسسة» مترنحة، خاصة على الجانب الجمهورى، حيث لم يخرج كل مرشحيها من السباق فقط، ولكنك لن تجد امتدادا لبوش الأب، ولا هنرى كيسنجر، أو جيمس بيكر أو حتى رونالد ريجان. على الجانب الديمقراطى فإن تشبث هيلارى كلينتون بالمؤسسة استنادا إلى دور أوباما ربما يعطيها فرصة، ولكنها فرصة محدودة، وتواجه إعصارا هائلا من أجل التغيير، وربما التغيير والانقلاب بأى ثمن!!
-------------------------------
نقلا عن المصري اليوم 14-3-2016.
رابط دائم: