منذ تأسيس الاتحاد الأوروبي، ظل لبريطانيا توجس للانغماس فيه، فهي عضو غير مكتمل العضوية، بمعنى أنها تشارك في الاجتماعات الأوروبية وتشترك في إصدار القرارات السياسية والاقتصادية، لكنها ليست عضواً في العملة الأوروبية الموحدة، ورغم ذلك، فقد نشأ تيار واسع داخل بريطانيا يدعو للانفصال عن هذا الاتحاد وخصوصاً بعد أن ظهرت أزمة اليونان المالية عام 2010، وتبع ذلك ظهور أزمات اقتصادية في العديد من الدول الأخرى مثل البرتغال وإسبانيا وفرنسا وبلجيكا.
وقد وجد راسمو السياسات الاستراتيجية في بريطانيا أنه من الحكمة مواجهة ذلك الحشد المعادي للاتحاد خوفاً من أن يصل إلى غايته ويحقق مطلبه وهو الانفصال عن ذلك الاتحاد. وبالتالي تخسر بريطانيا سنداً قوياً وقد يؤدي الانفصال إلى تفكك الاتحاد الأوروبي وغياب تأثيره في الساحة الدولية، فلا يخفى اليوم حجم الدور السياسي والاقتصادي الذي يلعبه هذا الاتحاد، فهو شريك أساسي للولايات المتحدة في فرض السياسات الكبرى في العالم، وخاصة في مواجهة روسيا التي بدأت تلعب دوراً محورياً في السياسة العالمية من جديد. ومن هذا المنطلق ظهر رأي في بريطانيا يتحدث عن إمكانية البقاء في الاتحاد الأوروبي لكن ضمن شروط جديدة، وتبنى رئيس الوزراء ديفيد كاميرون هذا الرأي وأعلن أنه إذا أعيد انتخابه عام 2015 فسوف يتفاوض مع الاتحاد الأوروبي على روابط جديدة، وإذا لم يوافق الاتحاد الأوروبي عليها، فسوف يطرح بقاء بريطانيا من عدمه في الاتحاد الأوروبي على الاستفتاء العام 2016، وتتمثل الشروط البريطانية في التالي:«إعفاء بريطانيا من أي اندماج سياسي كبير للاتحاد الأوروبي مستقبلاً، وحماية المركز المالي لبريطانيا، وإعطاء دور أكبر للبرلمانات المحلية في عملية اتخاذ القرار الأوروبي، والإقرار بأن اليورو ليس العملة الوحيدة للاتحاد، ومنع مواطني الاتحاد الأوروبي من الاستفادة من أية ضمانات اجتماعية في بريطانيا لمدة أربع سنوات متتالية».
وخلال اجتماع قادة الاتحاد الأوروبي في ديسمبر الماضي، اتفق هؤلاء على العمل لإيجاد حلول ترضي جميع الأطراف بشأن المطالب البريطانية لتعديل المعاهدة الأوروبية. وأكدوا أن ذلك سيكون في القمة المقررة في 18 و19 فبراير 2016، وفي ختام هذه القمة، أعلن رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك في بروكسل عن التوصل لاتفاق بين الاتحاد وبريطانيا يعزز الوضع الخاص للأخيرة في الاتحاد. وأضاف توسك أن «الوضع الخاص سيصبح ملزماً حقوقياً لكل أعضاء الاتحاد». وبعد هذه الموافقة الأوروبية، أعلن ديفيد كاميرون أنه سيقوم بحملة «قلباً وقالباً» لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
والواقع أن القرار الحقيقي لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي ليس في يدها ولا في يد الاتحاد الأوروبي، بل هو في يد، الشريك القوي، الولايات المتحدة التي تهيمن على أوروبا بالكامل، فقد كان توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً نحو دول كانت شيوعية تابعة للاتحاد السوفييتي السابق، قد تم بإيعاز من الولايات المتحدة التي تريد التضييق على روسيا التي تعتبرها خصمها الاستراتيجي في العالم، ورغم أن روسيا لا تطالب بإعادة تلك الدول إلى هيمنتها، لكنها تنظر بعين القلق إلى وصول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي الملازم له إلى حدودها، ولاسيما في دول البلطيق ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، الملاصقة للحدود الروسية.
إن الولايات المتحدة استعانت مؤخراً بالاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات اقتصادية واسعة ضد روسيا، بحجة التدخل في أوكرانيا التي ساهم ذلك الاتحاد في تفجيرها من الداخل، مطلع عام 2014 وتم إجراء مناورات عسكرية أطلسية في دول البلطيق الثلاث عام 2015 وذلك كرسالة عسكرية موجهة لروسيا في المقام الأول. ومن هنا، فالاتحاد الأوروبي هو حاجة أمريكية.
وقد أظهر الاتفاق المالي بين اليونان والاتحاد الأوروبي مدى الهيمنة الأمريكية على أوروبا، ذلك أن دولاً أوروبية رئيسية مثل ألمانيا كانت ترفض مساعدة اليونان إلا بشروط تضمن الوفاء بالقروض المقدمة إليها، وقد حدث خلاف بين وزراء منطقة اليورو في بروكسل حول هذا الأمر. وكانت العقبة الرئيسية تتمثل، بعدم قدرة المصارف اليونانية على إخراج مالكي المنازل والشقق منها، إن لم يدفعوا أقساطهم المستحقة، في حين أن الممولين يطالبون بذلك. وهو ما أكده وزير المالية الألماني، قائلاً إن «المصرف الأوروبي المركزي، لن يضخّ الأموال في المصارف في دولة لا تسمح قوانينها بإرجاع هذه الأموال إلى أصحابها، لأن القروض المتعثرة هي إحدى المشاكل الرئيسية التي تواجه المصارف اليونانية، وعلى اليونان إنهاء هذا الأمر».
لكن سرعان ما تخلت ألمانيا عن هذا المطلب وسمحت بتمرير القروض المطلوبة لليونان من أجل ضمان بقائها داخل الاتحاد بعد تهديدات رئيس الوزراء اليوناني بالانسحاب من الاتحاد، وخاصة أن روسيا أبدت استعدادها لمساعدة اليونان على تجاوز أزمتها المالية.
إن تنازل الاتحاد الأوروبي لبريطانيا ومعاملتها بطريقة خاصة يجعلها تشعر بأنها فوق جميع دول الاتحاد بما فيها ألمانيا وفرنسا، هو دليل على أن القرار يملي على هذا الاتحاد، وبما يخدم المصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة، في أوروبا والعالم.
إن السؤال لم يعد هو هل ستبقى بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أم لا، لأن هذا الموضوع حسم لمصلحة البقاء، لكن السؤال هو إلى متى ستبقى دول أوروبا قادرة على تحمل عبء السياسات الأمريكية، فمثلاً بلغت قيمة الخسائر التي لحقت بالاتحاد الأوروبي جراء فرض العقوبات ضد روسيا 100 مليار دولار وذلك وفق بيان وزارة التنمية الاقتصادية الروسية صدر على هامش منتدى الاستثمار الدولي في سوتشي في 2 اكتوبر 2015، بالمقابل تكبدت روسيا ما بين 20 و25 مليار دولار. وقطعاً لو كان القرار يعود للاتحاد الأوروبي لما اضطر إلى تكبد كل تلك الخسائر، ولكان استمر في العلاقات الاقتصادية مع روسيا، لكن الأمر ليس في يديه، وطالما بقيت الولايات المتحدة قوة عالمية عظمى، فسيبقى القرار الأوروبي عائداً لها، ولن يكون بوسع قادة هذا الاتحاد سوى تنفيذ ما يملى عليهم من سياسات.
----------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 13-3-2016.
رابط دائم: