هل ستؤدي عودة عباسي مدني، باعتباره رمز الراديكالية الإسلامية في الجزائر، إلى عودة حزبه إلى الساحة السياسية سواء في صورته القديمة أو في شكل آخر مختلف من حيث التسمية التي لا تلغي الجوهر.
تفيد بعض التسريبات، التي تلقفتها ونشرتها بعض وسائل الإعلام الجزائرية، أن عباسي مدني، زعيم حزب جبهة الإنقاذ الإسلامية المحظورة من العمل السياسي، سيعود قريبا من منفاه بقطر، حيث أقام منذ التسعينات من القرن الماضي، إلى الجزائر. وينتظر أيضا أن يحذو حذوه قادة هذا الحزب الموجودون منذ سنوات في المنافي الأوروبية.
في الأيام القليلة الماضية عاد آخر رئيس حكومة في عهد الشاذلي بن جديد وهو عبدالحميد الإبراهيمي وقوبل بوابل من النقد في مختلف وسائل الإعلام الوطنية، إلى درجة أنها حملته مسؤولية تحطيم الاقتصاد الجزائري والموروث الاشتراكي للرئيس الراحل هواري بومدين، وأنه عراب اقتصاد السوق الذي لعب دورا مفصليا في تعميق المديونية الخارجية للجزائر في ذلك الوقت، وأكثر من ذلك فقد اتهمت وسائل الإعلام الإبراهيمي بالتستر على اختلاس الأموال بملايين الدولارات من خزينة الدولة في عهده.
من الواضح أن إعلام النظام الحاكم في الجزائر يرفع الآن عقيرته مرددا أن الإصلاحات السياسية والتشريعية التي أقرها الدستور الجديد هي التي سمحت، وتسمح، باستكمال تنفيذ برنامج المصالحة الوطنية وتشجيع السياسيين اللاجئين على الالتحاق بوطنهم. وهذا يعني أن النظام الحاكم، بزعامة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، يقدم نفسه للرأي العام الوطني والدولي معا بأنه نظام الإصلاحات السياسية، والمصالحة مع الذات، والوئام المدني، وتمدين الدولة خاصة بعد إعادة هيكلة المخابرات ومؤسسة الجيش بكاملها. علما أن لعبة هذه الهيكلة قد أدت في الوقت الحاضر على الأقل إلى تحويل الرئيس بوتفليقة إلى إمبراطور يتحكم في كل أمور الدولة.
وهنا ينبغي طرح مجموعة من الأسئلة وهي: هل المقصود من تفعيل هذه الإجراءات الدستورية القانونية إحداث قطيعة مع العشرية الدموية نهائيا، أم أن وراء الأكمة مقاصد أخرى؟ هل سيفتح إعلام النظام الحاكم ملفات قيادات جبهة الإنقاذ الإسلامية بالطريقة المرسومة مسبقا كما فعل مع عبدالحميد الإبراهيمي لتشويهها أمام الرأي العام مجددا؟ وكيف سيكون رد فعل هذه القيادات التي تملك، بدورها، ملفات خطيرة تتصل بمختلف أشكال التجاوزات، والتصفيات الجسدية التي ترافع هذه القيادات أنه لم تقم بها الأجنحة المسلحة التابعة لجبهة الإنقاذ الإسلامية وإنما قامت بها أجهزة النظام الذي ألغى المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية في عام 1992؟ هل ستؤدي عودة عباسي مدني، باعتباره رمزا للراديكالية الإسلامية في الجزائر، إلى عودة حزبه إلى الساحة السياسية سواء في صورته القديمة أو في شكل آخر مختلف تماما من حيث التسمية التي لا تلغي الجوهر؟ وماذا سيكون موقف الأحزاب والشخصيات الإسلامية الفاعلة في المشهد السياسي الجزائري من كل هذا؟
من المعروف أن عباسي مدني قد أدركته الشيخوخة المفرطة، ولم يعد يملك الطاقة الحيوية التي تسمح له بخوض غمار الصراع السياسي والأيديولوجي، وقيادة المظاهرات العارمة ميدانيا، وأكثر من هذا فإن قوانين الوئام المدني والمصالحة الوطنية قد كتفت ولا تزال تكتف أجنحة الأحزاب الرسمية أو التي تتحرك في الفضاءات المعتمة دون ترخيص، حيث أن هذه القوانين تمنع منعا باتا المظاهرات السلمية دون موافقة أجهزة النظام، أو ممارسة ما يسميه نظام الرئيس بوتفليقة بالتجوال السياسي في البلاد.
إن زعماء جبهة الإنقاذ الإسلامية الذين عادوا إلى الجزائر من المنافي منذ سنوات فضلوا الاعتصام بتقية الصمت ولم يفعلوا شيئا يذكر يمكن أن يقلق النظام الحاكم، بل إنهم قد أسقطوا من حسابهم حتى المعارضة الشكلية، أو الظهور في وسائل الإعلام كمعارضين للنظام ما عدا ما قام به منذ عدة أشهر مدني مرزاق قائد الجيش الإسلامي سابقا عندما هدَد بإشعال الشارع في حال عدم السماح له بالعمل السياسي في إطار الحزب الذي أعلن عنه مرارا بأنه قيد التكوين، ولكن مدني مرزاق سرعان ما تراجع عن مواقفه وتهديداته.
إلى جانب كل هذا فإن علي بلحاج، الزعيم الثاني لجبهة الإنقاذ الإسلامية المعروف براديكاليته والأكثر تمسكا بالمبادئ التي يؤمن بها كرجل ديني سياسي، لم يقدر منذ سنوات على تحريك الشارع تحريكا شاملا وعاصفا، رغم أنه تمكن عدة مرات من إلقاء الخطب على حشود قليلة من مناصريه دون أن ينجح في تحقيق أي اختراق للأمر الواقع المفروض من قبل النظام الحاكم.
لا شك أن العودة المنتظرة للزعيم عباسي مدني إلى الجزائر ستكون توافقية وعلى مقاس السلطة الحاكمة دون أدنى شك، كما أن الأحزاب الإسلامية المتشظية، بما فيها تلك الأحزاب الإسلامية التي نامت طويلا في فراش الإمتاع والمؤانسة مع النظام الحاكم باسم ما كان يسمى بالتحالف الرئاسي، لن تلتف حوله سياسيا ولن تعترف برمزيته، وبذلك فإن عودة الشيخ عباسي مدني الطاعن في السن والنوستالجيا ستكون شبيهة تماما بعودة السائح العربي المعاصر إلى الأندلس التي ضيعها ملوك الطوائف منذ عدة قرون.
----------------------
* نقلا عن العرب اللندنية، 11-2-2016.
رابط دائم: