د. محمد كمال - أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة
Vali Nasr, The Dispensable Nation: American Foreign Policy in Retreat, (New York: Anchor, 2013).
علي الرغم من أن كتاب فالي نصر، عميد كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية، قد صدر منذ عامين، وأن بعض الأحداث قد تجاوزته، خاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية تجاه إيران، فإنه يظل كتابا مهما لسببين. أولهما أنه يلقي مزيدا من الضوء علي ديناميكية العلاقة بين المؤسسات المعنية بصنع السياسة الخارجية الأمريكية، من خلال عرضه بشكل تفصيلي للتنافس والتناحر بين وزارة الخارجية والبيت الأبيض حول صياغة السياسة الأمريكية تجاه باكستان وأفغانستان. ثانيهما أنه يقدم تحليلا نقديا لتوجهات السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي، باراك أوباما، خلال السنوات الأربع لإدارته الأولي، ويطرح رؤي بديلة لهذه التوجهات.
التناحر بين مؤسسات صنع السياسة الخارجية الأمريكية:
يكاد الجزء الأول من الكتاب يقترب من كونه مذكرات شخصية للمؤلف عن الفترة من عام 2009 إلي عام 2011، عندما كان نصر يشغل منصب كبير مستشاري السفير ريتشارد هولبروك، الممثل الخاص لإدارة أوباما لأفغانستان وباكستان. خلال تلك الفترة، كان نصر مشاركا مع ريتشارد هولبروك في صياغة السياسة الأمريكية تجاه أفغانستان وباكستان. وفي هذا الجزء، يصف الكاتب الدور المحدود الذي لعبته وزارة الخارجية الأمريكية في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه هذين البلدين، وتدهور العلاقة بين هولبروك والبيت الأبيض، والتجاهل الذي تعرض له من البيت الأبيض.
ويشير نصر إلي أن مجموعة من المسئولين في البيت الأبيض، الذين يصفهم بأنهم قليلو الخبرة في مجال السياسة الخارجية، لعبوا الدور الرئيسي في صياغة سياسة الولايات المتحدة تجاه باكستان وأفغانستان، وتم ذلك بالتعاون مع وزارة الدفاع وأجهزة المخابرات، في حين تم تهميش وزارة الخارجية. ويتحدث نصر في هذا الجزء من مؤلفه بإعجاب شديد عن هولبروك الذي أشرف علي اتفاقات دايتون للسلام عام 1995، والتي أنهت الحرب في البوسنة. ويصفه بأنه المفكر الاستراتيجي الذي لا يقل في المكانة عن عمالقة الدبلوماسية الأمريكية، مثل هنري كيسنجر.
انتقاد السياسة الخارجية الأمريكية:
في الجزء الثاني من الكتاب، يتعامل نصر مع سياسة الولايات المتحدة تجاه منطقة الشرق الأوسط من خلال فصول عن العراق، وإيران، والربيع العربي، بالإضافة لفصل عن الصعود الصيني وتأثيره في الدور الأمريكي في المنطقة.
في هذا الجزء، ينتقد المؤلف سياسة الرئيس باراك أوباما تجاه القضايا الدولية، ومنطقة الشرق الأوسط علي وجه الخصوص. ويري نصر أن السنوات الأربع الأولي في فترة أوباما شهدت انخراطا أقل للولايات المتحدة في العالم. ونتيجة لذلك، كان لها تأثير أقل، وأن الولايات المتحدة تبنت مناورات تكتيكية، ولكنها لم تمتلك استراتيجية متماسكة أو رؤية للقيادة العالمية. ويشير إلي أن صورة الولايات المتحدة الخارجية أصبحت صورة قوة عظمي تعبت من تحمل مسئولية قيادة العالم، وفي حالة تراجع، وأن ذلك يظهر بشكل أكثر وضوحا في منطقة الشرق الأوسط التي شهدت حضورا أمريكيا مكثفا في الماضي.
ويتحدث نصر عن أنه بالرغم من أن الولايات المتحدة لديها مشاكل اقتصادية في الداخل، فإنها لا تزال تمثل الاقتصاد الأكبر في العالم، ولديها أقوي جيش، أي لا يزال لديها جميع مقومات القيادة العالمية. ولا يعتقد نصر أن الولايات المتحدة في حالة تراجع Decline، ولكنه يطرح سؤالا مفاده: لماذا يتضاءل النفوذ الأمريكي في العالم، علي الرغم من القوة والإمكانيات الأمريكية الضخمة؟. ويري أن الإجابة تكمن في كيفية ممارسة الولايات المتحدة لقوتها، وكيف تري دورها في العالم. وهنا، يشير نصر إلي أن القيادة العالمية تنزلق من قبضة الولايات المتحدة، ليس لأن اقتصادها كان في حالة ركود، ولكن لعدم وجود يقين لدي القادة الأمريكيين بخصوص دورها في العالم.
قيود علي الدور الأمريكي:
تتعارض وجهة نظر فالي نصر مع اعتقاد أوباما في أنه يجب أن تكون هناك قيود وحدود علي الدور الأمريكي في العالم. أحد هذه القيود يتعلق بإدراك أن الولايات المتحدة لا تمتلك إمكانيات لا نهائية تتيح لها التدخل والتأثير في العالم كله، أي أن هناك حدودا للنفوذ الأمريكي. وهناك أيضا القيد المتعلق بالتغير في هيكل النظام الدولي، ونهاية ما عرف بلحظة "القطبية الأحادية" بعد نهاية الحرب الباردة، بالإضافة للمشاكل الداخلية التي تعانيها الولايات المتحدة، والتغير في المزاج الأمريكي الذي لم يعد متحمسا للتدخل الخارجي بسبب التكلفة المالية والبشرية التي ترتبط به.
هذه القيود لا تمثل جزءا من تحليل نصر الذي يروج لفكرة أن القيادة الأمريكية لا تزال ضرورية لاستقرار النظام العالمي، وصحة الاقتصاد الدولي، وتوسع التجارة، واستمرار التنمية والازدهار للدول الأخري. ويري أنه لا توجد دولة أخري يمكن أن تلعب دور الولايات المتحدة علي المسرح العالمي، والعالم لا يزال يحتاج إلي القيادة الأمريكية، ولا تزال الولايات المتحدة هي الدولة المحورية Pivotal في العالم.
ويضيف نصر أن العالم قد تغير ولا يزال يتغير، ولابد أن تتغير القيادة الأمريكية أيضا. وينتقد نصر تركيز الولايات المتحدة علي استخدام القوة العسكرية، خاصة في عهد جورج بوش الابن. ويري أن هذا النهج أدي لنتائج كارثية، وكان مكلفا وغير مثمر في الشرق الأوسط، علي وجه الخصوص. ويؤكد نصر أنه حان الوقت للتفكير بشكل مختلف لكيفية ممارسة القيادة الأمريكية، بالتركيز علي استخدام الدبلوماسية، والمشاركة الاقتصادية، وهي أدوات القوة المركزية التي أدت للدور القيادي الأمريكي في العالم في مراحل سابقة.
الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط:
بالنسبة للشرق الأوسط، يري نصر أن هذه المنطقة تمر بمرحلة تحول تاريخي، والربيع العربي كان بصيصا من الأمل، ودعوة شجاعة من أجل الحرية، ولكن هذا وحده لا يمكن أن يغير واقع الركود الاقتصادي، والبؤس الاجتماعي، والإحباط السياسي بالمنطقة، ولذلك طالب نصر بدرجة أكبر من الانخراط الأمريكي بالمنطقة.
ويري نصر أن حل مشاكل الشرق الأوسط والتهديد الذي تشكله بالنسبة إلي العالم يتطلب تغييرا جوهريا في الملف الاقتصادي بالمنطقة، وعلي المجتمع الدولي أن يتبني خطة كبيرة لمساعدات التنمية والتجارة، والاستثمار الاقتصادي للمنطقة، شبيهة بخطة مارشال التي طبقت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا الأمر يتطلب قيادة أمريكية. ويشير إلي أن المشاركة الاقتصادية الأمريكية مع الشرق الأوسط يجب أن تسير جنبا إلي جنب مع تبني المبادرات الدبلوماسية التي تستهدف تحقيق الاستقرار الإقليمي، ويجب علي الولايات المتحدة ألا تنظر إلي المنطقة من العدسة الضيقة المتعلقة بمكافحة الإرهاب.
وهو يعتقد أن الولايات المتحدة لعبت دورا حاسما في تعزيز السلام والازدهار في شرق آسيا، من خلال المحافظة علي التوازن الدقيق بين الصين وجيرانها، كما لعبت دورا أيضا في الحفاظ علي التوازن في الشرق الأوسط بين إيران وجيرانها، وبين إسرائيل وجيرانها. ويري نصر أنه بدون دور أمريكي في تحقيق التوازن بالشرق الأوسط، فإن المنطقة سوف تسعي لتحقيق التوازن الخاص بها، وأن ذلك سوف يكون عملية عنيفة ومزعزعة للاستقرار. وبدون القيادة الأمريكية في الشرق الأوسط، سوف يترك مستقبل المنطقة، كي تقرره الصين أو روسيا، أو لتتصارع عليه دول مثل تركيا، والسعودية، وإيران، ولن يكون ذلك مدعاة للأمل، حسب تعبير نصر.
فأحد أسباب عدم الاستقرار بالشرق الأوسط -وفق تحليله- هو أن الولايات المتحدة لم تساعد علي بناء مؤسسات إقليمية بالمنطقة، كما هو موجود في مناطق أخري، مثل الآسيان، أو أبيك APEC (آسيا والمحيط الهادي)، أو منظمة شنغهاي للتعاون، التي تدعمها الصين وروسيا. وربما يجب أن تساعد الولايات المتحدة في خلق هذا النوع من المؤسسات، التي يمكن أن تعزز النظام، والأمن، والرخاء في المنطقة.
ويشير نصر أنه علي عكس الولايات المتحدة، فإن الصين لا تنظر للشرق الأوسط علي أنها منطقة تتناقص في أهميتها الاستراتيجية، بل تري أن القيمة الاستراتيجية للمنطقة في تزايد، وتسعي لزيادة نفوذها فيها. ويشير نصر إلي أنه في الوقت الذي تسعي فيه الولايات المتحدة للتمحور تجاه آسيا وعلي حساب الشرق الأوسط، تقوم الصين بالتمحور في اتجاه الشرق الأوسط. ويري أن الشرق الأوسط هو المنطقة التي سوف تتحدد فيها نتائج التنافس الصيني - الأمريكي. كما يدعو الولايات المتحدة لرؤية الشرق الأوسط بحسبانه جزءا لا يتجزأ من آسيا في إطار التوجه الأمريكي نحو أسيا Asia Pivot.
موطن الضعف في رؤية المؤلف:
لا يناقش فالي نصر في كتابه وجهات النظر الأخري المخالفة لأفكاره، والداعية لدور أمريكي محدود بالشرق الأوسط، مثل الأفكار التي طرحها ستيفن والت، الأستاذ بجامعة هارفارد، حول السياسة الأمريكية تجاه هذه المنطقة، والتي يبدو أن إدارة أوباما قد تبنتها. وتقوم هذه الأفكار علي أن الشرق الأوسط في منتصف ثورة عميقة، لا يزال مسار مستقبلها غير محدد، وتتخللها صراعات عديدة، كالسنة ضد الشيعة، والعرب ضد الفرس، والعلمانية ضد الإسلام، والديمقراطيين ضد السلطويين ... إلخ. وفي إطار هذا الموقف المتشابك وغير الواضح، فإن الاستراتيجية الأفضل للولايات المتحدة في المنطقة يجب أن تقوم علي تقليل وجودها بها، وإنشاء نظام لتوازن القوة بين القوي الإقليمية. ويشير والت إلي أن هذه هي السياسة التي انتهجتها الولايات المتحدة في الفترة من 1945 إلي 1990، حيث لعبت دور الموازن أو المعادل الخارجي في الإقليمOffshore Balancing ، وكانت لها روابط أمنية قوية، ومصالح استراتيجية واضحة بالعديد من الدول. وكان هدفها الأساسي هو منع أي دولة من السيطرة علي الأقاليم، وعلي تدفق البترول. واعتمدت في هذا علي تحالفات محلية، بينما ادخرت قواتها المسلحة خارج الإقليم من أجل التدخل في لحظات قليلة وسريعة. ولكن الولايات المتحدة تخلت عن هذه الاستراتيجية عام 1991، عندما تبنت استراتيجية "الاحتواء المزدوج". وبدلا من استخدام العراق وإيران في موازنة بعضهما بعضا، أخذت واشنطن علي عاتقها مهمة احتواء الدولتين معا. ثم تبنت إدارة جورج بوش الابن استراتيجية التحول الإقليمي وتغيير النظم، التي قادت مباشرة إلي كوارث في العراق، وساعدت علي تغذية الإرهاب المضاد للولايات المتحدة.
ويري والت أن الحل الأفضل للولايات المتحدة هو أن تعود إلي استراتيجيتها السابقة المتعلقة بتوازن القوي. ويتطلب إنشاء ذلك النظام الجديد لتوازن القوي في الشرق الأوسط قيام الولايات المتحدة بالانفتاح علي إيران، وتطبيع العلاقات معها، وهو ما تم وضع أساسه في إطار الاتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي.
يقدم كتاب فالي نصر دافعا قويا عن الدبلوماسية كإحدي أدوات تعزيز المصالح الأمريكية بالخارج بدلا من الاعتماد علي القوة العسكرية. ويري أن الولايات المتحدة فقدت التوازن في استخدام أدوات السياسة الخارجية، وأصبحت أكثر اعتمادا علي القوة الصلبة، وعلي الحلول العسكرية، بدلا من التركيز علي الدبلوماسية. والواقع أن أوباما -الذي ينتقده نصر- قد أعطي أولوية للدبلوماسية، وإن ظهر ذلك جليا في فترة إدارته الثانية التي لا يتضمنها الكتاب. فنجد أوباما يتحدث عن أن سياسة الارتباط أو الدبلوماسية مع إيران يمكن أن تخدم المصالح الأمريكية بشكل أفضل من العقوبات، وأن العقوبات نجحت في أن تأتي بإيران إلي طاولة المفاوضات، ولكنها لم تنجح في تقليص البرنامج النووي الإيراني، بل توسع هذا البرنامج في ظل العقوبات، وأن استخدام الخيار العسكري سيؤدي إلي نتائج مدمرة في منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي، فالخيار الدبلوماسي هو الأفضل للتعامل مع إيران. وحديث أوباما أيضا عن أن التفوق العسكري الكاسح للولايات المتحدة تجاه الدول الأخري، خاصة خصومها، يتيح لها فرصة اختبار الخيار الدبلوماسي في التعامل مع هذه الدول، دون أن يتعرض الأمن القومي الأمريكي للخطر.
ولذلك، فأهم ما ينقص هذا الكتاب هو مناقشة المنطق الذي تقوم عليه وجهات النظر الأخري التي تطالب بتخفيض الارتباط الأمريكي بالشرق الأوسط، فضلا عن عدم تقدير اتجاه قطاع واسع من شعوب المنطقة إلي التشكك في الدور الأمريكي بالمنطقة، في ضوء خبرات السنوات الماضية من غزو العراق، وحتي أحداث الربيع العربي.