الصين تقرع أبواب الشرق الأوسط.. السياسة تواكب الاقتصاد
26-1-2016

مصطفى أحمد النعمان
*
مثلت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الشرق الأوسط والتي شملت السعودية ومصر وإيران حدثاً هاماً، يمكن التأريخ انطلاقاً منه. ومرد ذلك أن هذه الزيارة جاءت في إطار دولي وإقليمي يختلف كثيراً عن آخر زيارة لرئيس صيني إلى المنطقة قبل سبع سنوات. تغيّر العالم وظهرت الشروخ واضحة في بنية النظام الدولي أحادي القطبة الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية، بعدما كشفت الأرقام والإحصائيات أن العملاق الصيني الاقتصادي يرتقي حثيثاً في مدارج الصعود الاقتصادي العالمي. لم تتمكّن بكين بعد من امتلاك القوة السياسية حول العالم والتي تمكّنها من إزاحة أميركا عن قمة النظام الدولي، إلا أن الزيارة الصينية عالية المستوى للشرق الأوسط أظهرت إرادة صينية جديدة تتواكب مع قوتها الاقتصادية الصاعدة، للعب أدوار سياسية مباشرة في منطقة كانت قبل الزيارة الصينية حكراً على «القطب الأوحد».
 
حسابات صينية متعارضة
 
عكست زيارة الرئيس الصيني إلى المنطقة قلق بكين من اتساع عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، التي تعرف مصالح صينية حيوية، الأمر الذي يمكنه تهديد هذه المصالح. وترتبط مصالح الصين المباشرة في سوريا بمواجهة تنظيم «داعش»، الذي يضم مقاتلين تابعين للأقلية الصينية المسلمة الأويغور، التي تتحدث لغة تتحدّر من شجرة اللغات التركية، في المنطقة المعروفة باسم «تركستان» والواقعة في غرب الصين. وكانت الصين على سبيل المثال قد دعمت النظام السوري لسنوات، إلا أنها حاولت مؤخراً إعادة موضعة نفسها كوسيط محتمل، حيث قامت بدعوة ممثلي النظام وفصائل المعارضة لزيارة بكين. وتجسد الزيارة الصينية رفيعة المستوى، من ناحية ثانية، الصعوبة الصينية في الحفاظ على سياسة «عدم التدخل» في المنطقة، في الوقت الذي توسّع فيه شراكاتها الاقتصادية مع دولها. وتبدو تلك الصعوبة الصينية واضحة عند ملاحظة أن الزيارة ترافقت مع اشتعال الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران، التي تحتفظ بكين بعلاقات متميّزة مع كل منهما. وكان الرئيس الصيني في وارد زيارة المنطقة العام الماضي، إلا أنه فضل تأجيلها بسبب اندلاع المعارك في اليمن على أثر التدخل العسكري السعودي هناك، وعدم رغبة الصين في إظهار نفسها منحازة لأحد الأطراف. في كل الأحوال، يبدو أن الصين توصلت إلى قناعة مفادها أنه لا يمكن الاحتفاظ بشراكات اقتصادية طويلة المدى مع دول المنطقة فائقة الأهمية لمصالحها، من دون أن تلعب الصين فيها دوراً سياسياً يتواكب مع دورها الاقتصادي المتعاظم. عرضت الصين وساطة لحل الخلافات السعودية ـ الإيرانية، إلا أن فرصها في النجاح تبدو محدودة لأسباب ثلاثة رئيسية. أولاً أن الطرفين لا يرغبان ربما بتسوية خلافاتهما في المرحلة الراهنة، كل لأسبابه، وثانياً لأن بكين لا تملك بعد «الحوافز» السياسية المطلوبة لإغراء الطرفين للقبول بتسوية، وثالثاً وهو الأهم أن الصراع السعودي ـ الإيراني يدور حول النظام الإقليمي المنهار في الشرق الأوسط، والذي لم تشارك الصين في تحديد قسماته سياسياً وهيكلته اقتصادياً ضمن نسق النظام العالمي والاقتصاد العالمي السائد حتى الآن.
 
ثلاث دول ومصالح صينية واحدة
 
كانت السعودية، المورد الأول للنفط إلى الصين، المحطة الأولى لزيارة الرئيس الصيني إلى الشرق الأوسط. التقى الرئيس الصيني أثناء الزيارة مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، واتفقا على رفع مستوى العلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة. ووقع الجانبان العديد من اتفاقيات التعاون المشترك في شتى المجالات، خصوصاً مجال الطاقة، كما حضر الرئيس الصيني حفل تدشين مصفاة النفط «ياسرف»، وهو مشروع صيني ـ سعودي مشترك باستثمارات تبلغ عشرة مليارات دولار تملك منها شركة النفط الوطنية الصينية «سينوبيك» حوالي 37,5 في المئة من أسهمها. وتمثل السعودية تحدياً للصين من زاوية المكانة المركزية التي تملكها الرياض في تأمين احتياجات الاقتصاد الصيني من موارد الطاقة الشرق أوسطية، حيث تستهلك الصين أكثر من عشرة ملايين برميل من النفط يومياً، والذي يماثل حجم إنتاج السعودية من النفط يومياً تقريباً.
 
ومثلت مصر المحطة الثانية لجولة الرئيس الصيني الشرق أوسطية، وهي الزيارة الأولى لرئيس صيني إلى مصر منذ 12 عاماً، وجاءت بالتزامن مع احتفال الجانبين بالذكرى الستين لتأسيس العلاقات بينهما. أعلنت الصين عن استعدادها للمشاركة في مشروعات البنية التحتية الكبرى في مصر بما في ذلك تطوير ممر قناة السويس وبناء عاصمة إدارية جديدة، وأظهرت الصين لياقة في دعوة الرئيس المصري إلى حضور قمة «مجموعة العشرين» التي ستعقد أيلول المقبل في مدينة هانغتشو الصينية، إلا أن حجم ما تم الاتفاق عليه بالفعل بين بكين والقاهرة لا يرقى إلى مستوى الاتفاقات التي تمت في الرياض قبلها أو طهران بــعدها. وبــرغم أن وسائل الإعلام الرسمية المصرية استــغلت الزيارة الصينية لإظهار أدوار مصرية مبــالغ فيها في الموازين الشرق أوسطية، إلا أن مقارنة زيارة الرئيس الصيني وإلقاء خطاب في الجامعة العربية العام 2016 مع زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما العام 2009 لإلقاء خطاب إلى العالم الإسلامي في مستهل ولايته الرئاســية، ستتســبب في تسليط الضوء على سبــب اختيار القاهرة كمحطة ثانية لزيارة الرئيس الصيني. في الحــالتين، كان المنبر الذي تمثله مصر بمكانتها التاريخية ووزنها السكاني هو المستهدَف، وليس الأدوار السياسية التي لم تعد القاهرة تلعبها لأسباب مختلفة.
 
اختتم الرئيس الصيني زيارته إلى الشرق الأوسط بإيران، التي التقى فيها مع مرشد الجمهورية علي خامنئي ورئيس الجمهورية حسن روحاني ورئيس البرلمان علي لاريجاني. وأعلن الرئيس الصيني خلال الزيارة على دعم بلاده لانضمام إيران كعضو كامل الصلاحيات إلى «منظمة شانغهاي للتعاون»، التي سعت إيران في سنوات سابقة إلى الانضمام الرسمي لها وتحويل صفتها من عضو مراقب إلى عضو كامل الصلاحية. لا تملك إيران القوة النفطية السعودية ذاتها ولا تحتفظ باحتياطات مالية ضخمة كالرياض، ولكن أدوارها المتعاظمة في المنطقة ترفدها بوزن سياسي كبير. كما أن رفع العقوبات الاقتصادية عنها بعد إبرام الاتفاق النووي، يُعطي لإيران أهمية خاصة لكونها ستنتقل سريعاً إلى مركز استقطاب اقتصادي على المستوى الدولي بفضل سوقها الكبير وإمكاناتها الاستثمارية الواعدة. اتفق الرئيس الصيني مع الجانب الإيراني على زيادة التبادل التجاري إلى مستوى 600 مليار دولار خلال العقد المقبل، ويتمثل التحدّي الصيني الكبير في العلاقة مع إيران في الحيلولة دون تغلغل الشركات الأميركية والعابرة للقارات في مفاصل الاقتصاد الإيراني، ما سيتسبب في نتائج سياسية واستراتيجية لا تصب في مصلحة بكين. ولعل التعاون الاقتصادي والشراكة الإقليمية هي وسيلة بكين الممتازة للاحتفاظ بموطأ قدم في السوق الإيراني الواعد.
 
سياسة صينية متدرجة للشرق الأوسط
 
سبقت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى المنطقة خطوتان على قدر كبير من الأهمية، إحداهما تتمثل في إقرار قانون لمكافحة الإرهاب يسمح للجيش الصيني بالمشاركة في عمليات عسكرية خارج الحدود، بشرط الحصول على موافقة الدولة المعنية. والأخرى تتمثل في بناء الصين أول قاعدة عسكرية لها في جيبوتي على البحر الأحمر، على مدخل الشرق الأوسط البحري جنوباً. وتشي الخطوتان بخروج صيني من سياسة الاكتفاء بالمــبادلات الاقتصادية مع الشرق الأوسط إلى سياسة الانخراط المتدرج في شؤونه للحفــاظ على مصالحها، في تطور تاريخي غير مسبوق. ومثل خطاب الرئيس الصيني أمام الجــامعة العربية أول سياسة صينية معلنة حيال العالم العربي والمنطقة، حيث كان واضحاً أن أركان الســياسة الصينية الجديدة تتمثل في الاقتــصاد والطاقة ومكافحة الإرهاب والأمن والتعاون التقني وطريق الحرير الجديد. زبدة الخطاب الصــيني يمــكن رؤيتها في جملة الرئيس الصيني أن بلاده «لا تبحث عن وكلاء أو تملأ فراغ في المنطــقة، وإنما تبحث عن شراكات ذات منافع مشتركة». يقول تحليل المضمون هنا إن بكين لا تنازع واشنطن مكانتها في المنطقة مع وعيها بتراجع أدوار الأخيرة، لكن بكين لن تبقى على هامش الأحداث فيها في الوقت ذاته.
 
يتلمس العملاق الصيني طريقه للدخول السياسي والعسكري والأمني إلى الشرق الأوسط، بعدما عزز حضوره الاقتصادي على مدار العقود السابقة بالمبادلات التجارية مع دول المنطقة كلها من دون استثناء. وتؤشر زيارة الرئيس الصيني للشرق الأوسط إلى مسألتين هامتين ومرتبطتين عضوياً: الأولى أن المنطقة لم تعد حكراً على النفوذ الأميركي، والثانية المرتبطة بها جدلياً ومفادها رغبة الصين في لعب أدوار سياسية مباشرة في المنطقة كجزء ضروري من شبكة حماية لمصالحها الاقتصادية فيها.
 
------------------------
نقلا عن السفير اللبنانية، 25-1-2016.

رابط دائم: