2016: نهاية «النظام» و«الثورة»؟
1-1-2016

ربيع بركات
*
كُتب الكثير عن المشكلات البنيوية التي تعتور النظام في سوريا٬ من النواحي القيَمية/الأخلاقية (الحكمُ القائم على دوائر محددة٬ البطش الأمني٬ الفساد..)٬ والأيديولوجية (ترهّل المنظومة العقائدية لحزب «البعث»٬ التساهل مع نمو أنماطٍ متطرفة من التديّن بقصد تغطية الفراغ الأيديولوجي الموجود واسترضاء البيئات المحافظة في الداخل والسعودية في الخارج ومنع تغلغل «الإخوان المسلمين»..)٬ والسياسية (غياب القدرة و/أو الرغبة بتحديث المؤسسات وتجديد أدوات الحكم)٬ والاقتصادية (التحول إلى نظام السوق وتطبيق وصفات البنك الدولي بما يصب في مصلحة تضخم ثروات أفراد وتقهقر الوضع المعيشي لجماعات كبرى في الأرياف...).
 
في المقابل٬ فإن النقض الغالب لـ «الثورة» السورية ظل٬ في معظم الأحيان٬ عملاً عسكرياً على الأرض وتوظيفاً لثغراتها أكثر منه تقديم مقاربات منهجية للخلل البنيوي فيها٬ مع بعض الاستثناءات القيّمة طبعاً.
 
والخلل البنيوي الذي يعتور «الثورة» السورية ضخم بدوره، بعضه اختصرته قوى المعارضة القليلة التي أصرت على مدنيتها وسلميتها تحت شعار «لا للطائفية٬ لا للسلاح٬ لا للتدخل الخارجي» («هيئة التنسيق الوطني» وأمثالها). علماً أن الثلاثية هذه أجهضتها عوامل يبدأ أولها بالأداء الأمني للنظام٬ ولا تنتهي بالسُعار الذي غذته فتاوى ومصالح وأحقاد مجنونة في الداخل والخارج تحت شعار «الثورة».
 
على أن إحدى الإشكاليات البارزة لدى كثير من أنصار هذه «الثورة»، بعد خمس سنوات تقريباً على انطلاق تظاهرات سلمية مطالبة بالإصلاح في بلاد الشام، تتمثل في أنها ما زالت تُعرَّف بالضد فقط، مع إغفالٍ قلَّ نظيره لبدائل «النظام» الفاعلة على الأرض. بل إن التعريف الضدّي هذا زاد بأشواطٍ عما كان عليه الأمر لدى انطلاق «الحراك» السوري. فـ «الحراك» رفع لافتاتٍ إصلاحية مُحدَّدة في بداياته، وإن اكتنفها شيء من الغموض، المفهوم طبعاً، نظراً لإفراغ النظام الساحةَ السورية من العمل السياسي الجدي على مدى عقود. بينما «الثورة»، اليوم، في أدبيات النخبة المؤيدة لها ووسائل الإعلام العربية الكبرى، تهدف إلى «إسقاط النظام»، من غير أن تتمكن من تعريف هذا «النظام» حتّى: هل هو رأس الهرم وأعوانه فحسب، أم أنه يشمل الجسم العسكري والمؤسسات الأمنية، أم يطال البُنى المدنية وهياكل الدولة بأسرها؟
وسوء التعريف هذا، كما أشرنا، يحصل بموازاة غض طرفٍ مفجعٍ عن حقيقة أن معظم الفاعلين على الأرض، ممن يعملون على «إسقاط النظام»، هم ذوو مشاريع لا تمت بصلة إلى شعارات الإصلاح الأولى، بل تهدف إلى إقامة نظام هو، بالنسبة لكثير من السوريين ومن دول الغرب التي بدأت تتأثر بموجات المهاجرين وتهديد الإرهاب، أسوأ من الموجود حالياً. ومعضلة التطرف هذه تزداد تعقيداً٬ برغم سعي السعودية إلى حلّها بما يتوافق ومصالحها عن طريق مؤتمرات للمعارضة السورية التي ترعاها. وهي مشكلة مُرشحة لأن تنفجر على شكل «حروب جهادية» شاملة خلال العام ٬2016 توازياً مع العمل الجاري٬ إقليمياً ودولياً٬ على فرز الجماعات المسلحة والضغط على بعضها للانسياق في تسوية للأزمة السورية، بما لا يلبي الطروحات الأصولية لهذه الجماعات بشكل كامل.
 
هذه الحقائق بالإمكان، بالنسبة لكثير من دعاة «الثورة»، كنسُها تحت السجادة أو دفن الرأس في الرمال حيالها. إذ إن الإقرار بها لا يعود بفائدة سوى على النظام... أو هذا ما يعتقده هؤلاء. علماً أن كثيراً منهم بات يعمل بقصد تحقيق الغلبة٬ بالمعنى الرديء للكلمة٬ لا من أجل استبدال منظومة قيمية حاكمة بواحدة أفضل منها.
والمفارقة أن خصوم النظام غالباً ما ينسبون التعريف الضدّي المذكور إلى «الممانعة» وأنصارها، على سبيل المذمّة، أي للتأكيد على غياب طرح إيجابي لهذه «الممانعة» وقيامها على «السلب» أو نقض ما هو موجود، حصراً ودائماً، من دون تقديم بدائل بنّاءة.
 
فيما «الثورة» السورية، بناء على ما أشرنا إليه في المطلع، أصبحت، إذا ما أعملنا أدوات الوصف والتحليل نفسها، «مُمانعَةً مُضاعفة»، أي مُمانعة للممانعة، أساساً وقبل أي أمرٍ مغاير. وأنصارها الذين يثيرهم التعبير المُشار إليه على اعتباره شتيمة لهم في وجه الخصوم، باتوا مُتفوّقين في إطار رفض الموجود حصراً، وفي بناء أمجادٍ هاذية فوق الرمال.
 
خلال الأسبوع الماضي٬ قضى اثنان من الناشطين السوريين المناهضين للنظام. الأول هو ناجي الجرف٬ المعارض السلمي الذي كان من أوائل الذين سلطوا الضوء على مخاطر نمو الظاهرة الأصولية في «الثورة». وبرغم أن تركيزه انصبّ على «داعش» أكثر من غيرها من الجماعات المتطرفة التي لا تقل تخلفاً (في ريف إدلب٬ مثلاً٬ ثمة توافق بين قوى المعارضة الكبرى على فرض النقاب.. هـذا هو حال «المناطق المحررة»)٬ إلا أن مجلة «حنطة» التي أشرف عليها حاولت أن تعالج مواضيع تتصل بظاهرة تطييف «الثورة»، من غير أن تخرج عن إطار تعريفها على أنها كذلك.
 
أما «الناشط» الآخر، فقد شكل نموذجاً نقيضاً للجرف: زهران علوش٬ زعيم «جيش الإسلام» الذي يحفل سجله الكلامي بتوعد «الروافض والمجوس والنصيريين» بـ «سحق رؤوسهم» وبالقضاء عليهم قضاءً مبرماً و «تعليق رؤوسهم في النجف» (كان يُنتظر أن تتمدد «الثورة» إلى العراق.. لكن «داعش» وفّر عليه المشقّة)٬ وهو الذي أكّد في مناسبات أخرى أن الديموقراطية «مرفوضة جملة وتفصيلاً»، وأن الحكم لا يكون بالسياسة بل بالسلاح٬ كما نفذ بعضاً من كلامه باعتقال مدنيين ووضع آخرين في أقفاص وبإعدام أسرى...
 
التضامن مع علوش من قبل أنصار «الثورة»، الإسلاميين و «العلمانيين»، فاق بأشواط ما حاز عليه الجرف. ولهذا أسباب منطقية طبعاً: إذ لا شيء يعلو فوق قرقعة السلاح قبيل التسويات المجبولة بالدم. وكما أن لـ «النظام» شبيحته وللدولة السورية أنصارها الصادقين٬ فلـ «الثورة» شبيحتها أيضاً٬ ولـ «الحراك» أنصاره الصادقين.
هل يكون العام 2016 فاتحة لنهاية ثنائية «النظام» و «الثورة» بالمعنَيين المذكورين أعلاه؟
يُفترض ألا تنتهي المقالة بسؤال هيأ له العنوان. لكن لعلنا نفتتح العام الجديد بتقديم إجابة محتملة عليه.
حتى ذلك الحين، سلامٌ على سوريا.. وكل عام وهي بخيرٍ وحيةٌ فينا.
 
-----------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 30-12-2016.

رابط دائم: