اقترن الحديث عن تنامي دور الشبكات في عالمنا المعاصر بعدد من التغيرات المتسارعة التي مثلت جسرا رابطا بين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. فالدولة القومية، التي كثيرا ما نظر إليها كفاعل مهيمن علي تفاعلات الداخل والخارج في العلاقات الدولية، تراجعت سيادتها سياسيا، وتقلصت وظائفها الاقتصادية، إثر عمليات الإدماج الرأسمالي في بنية الاقتصاد العالمي، خاصة مع تحول الأخير إلي نمط الإنتاج المتخصص والمرن والعابر للحدود. في الوقت ذاته، باتت الهوية الوطنية للدولة محل تنازع بين تيارين متصاعدين، الأول يدعم الاتجاه العابر للقومية، والمنطوي علي الارتباط بقيم وأفكار ورموز متعولمة، كرسها تمدد التبادلات الثقافية، وانتشار شبكات الإعلام العالمية، والآخر ينزع لتأكيد الهوية المحلية بأردية متنوعة دينية، أو قبلية، أو طائفية. بموازاة ذلك، تنامت قدرة الأفراد والجماعات كفاعلين من دون الدول علي اختراق السيطرة المكانية الجغرافية لسلطة الدولة، بفعل ما أتاحته العولمة من ثورة اتصالات ومعلومات، وشبكات إنترنت، وهواتف ذكية، بما أسهم في اتجاه المجتمعات لنسج روابط وتدفقات عابرة للحدود القومية تشكل الأساس الذي انبني عليه عالم الشبكات.
وفي هذا العالم الشبكي، يدرك الفاعلون (فرد، جماعة، دولة) أن مسافاته اقتربت، وقضاياه تداخلت، وهو الأمر الذي يحد من القدرة علي قيادته مركزيا، أو السيطرة علي تفاعلاته المعقدة، حتي من قبل القوي الكبري المهيمنة علي موازين القوة في العالم. فلم يعد بإمكان أي فاعل بمفرده، سواء أكان يحمل سمات رسمية، أم غير رسمية، ممارسة التأثير في قضية أو مجال بمعزل عن بناء روابط اتصال مع آخرين يشاركونه القيم ذاتها، أو المصالح، أو الاثنتين معا. وبالتالي، تحولت الشبكات إلي ما يشبه "لغة العصر" في عملية تنظيم العلاقات بين الفاعلين، حيث أصبحت موجة متصاعدة تطال مجالات عديدة في العالم، مثل الأعمال والتنمية، وحقوق الإنسان، والمساعدات الإنسانية، وتغير المناخ، وبناء السلام، وحقوق المرأة، والحركات السياسية وغيرها، حتي إن إحدي الدراسات الغربية أحصت قرابة الـ 20 ألف شبكة عابرة للقومية تعمل علي قضايا عالمية مختلفة في عام 2000، وهو الرقم الذي اتسع في العقد الأخير في مجالات مختلفة إلي درجة قد يصعب حصره، وهو ما يشير إلي حجم التعقيد الذي رافق نمو ظاهرة الشبكات.
رابط دائم: