كسر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأعراف والتقاليد التركية بإعلانه يوم الجمعة الماضي عن إجراء انتخابات برلمانية مبكرة في الأول من تشرين ثاني المقبل، لأنه لم يطق صبراً حتى تنتهي المهلة الرسمية لتشكيل الحكومة (انتهت فعلياً أمس الأحد). وكان أردوغان قد أظهر انحيازه كرئيس للجمهورية أثناء الانتخابات البرلمانية الماضية في حزيران الماضي ـ وهو ملزم دستورياً بالحياد ـ متجولاً في أنحاء تركيا خطيباً وداعياً إلى التصويت لمصلحة حزبه. وبعد نتيجة هذه الانتخابات التي أفقدت حزبه غالبيته البرلمانية التي احتفظ بها لمدة تزيد عن اثني عشر عاماً ومعها القدرة على تشكيل حكومة منفرداً، فقد ضغط أردوغان على رئيس الوزراء داود أوغلو كي تفشل المفاوضات الائتلافية مع الأحزاب الأخرى حتى يستطيع الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة، بأمل أن تعيد الغالبية المفتقدة إلى حزبه. ولأجل الوصول إلى ذلك الهدف غير مؤكد النتيجة، فقد عاد أردوغان وضرب عرض الحائط بالتقاليد الدستورية التركية بامتناعه عن تكليف «حزب الشعب الجمهوري» (ثاني أكبر الأحزاب التركية) بتشكيل الحكومة، وذهب مباشرة إلى إعلان الانتخابات المبكرة قبل انتهاء المهلة الدستورية. وفي لحظة كتابة هذه السطور، ما زال داود أوغلو جالساً على مقعد رئيس الوزراء، برغم أن الدستور التركي يقضي بتشكيل حكومة انتقالية من كل الأحزاب الممثلة في البرلمان لإجراء والإشراف على الانتخابات المبكرة. استماتة أردوغان في الذهاب إلى انتخابات مبكرة تشي برهان على نتيجة مغايرة للانتخابات الماضية، لكن المشهد السياسي التركي يبدو حاملاً لمفاجآت كبرى.
أردوغان و «داعش» والأكراد
راهن أردوغان على تحويل النظام السياسي التركي من جمهورية برلمانية يكون لرئيس الوزراء فيها غالبية الصلاحيات، إلى جمهورية رئاسية يتربع أردوغان على قمتها. ومع المقاومة المتزايدة لرهانات أردوغان وأحلامه من مكونات المجتمع التركي وشرائحه المختلفة، فقد اعتقد أردوغان أن احتفاظ حزبه بالغالبية البرلمانية سيسمح له بلعب دور الرجل رقم واحد في النظام عبر السيطرة على شخص رئيس الوزراء التابع لحزبه، حتى يتحين فرصة لاحقة لتغيير الدستور، أي الالتفاف على الدستور والإمساك بخيوط السلطة من وراء الستار. وكان أن أطاحت نتيجة الانتخابات الماضية بأحلامه، حيث فقد حزبه الغالبية البرلمانية، فكان الحل من منظور أردوغان إعادة الانتخابات مرة أخرى حتى تسنح الفرصة مجدداً لتعديل المشهد السياسي الحالي والإمساك بالغالبية البرلمانية من جديد. ومع أن مؤسسات استطلاع الرأي التركية ذات الصدقية مثل «مؤسسة غيشيسي» قد أعلنت أن حزب أردوغان يملك الآن 39 في المئة فقط من الأصوات، مقارنة بحوالي 42 في المئة بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لم يمنع ذلك أردوغان من السير قدماً باتجاه الانتخابات البرلمانية المبكرة. يراهن أردوغان على إحدى ثغرات الدستور التركي ـ الذي يخرقه باستمرار ـ وهي المتعلقة بتمثيل الأحزاب في البرلمان فقط عندما تتجاوز حاجز العشرة في المئة من الأصوات. وفي حال فشل الأحزاب في الحصول على تلك النسبة تذهب كل الأصوات التي حصلت عليها لمصلحة الحزب الأكبر، وهو بالضبط ما يراهن عليه أردوغان مع «حزب الشعوب الديموقراطية» الكردي، الذي شكل المفاجأة وحصل على 13 في المئة من الأصوات في الانتخابات الأخيرة. لكن كيف يمكن لأردوغان أن يفعل ذلك؟ الجواب: عبر تفعيل التناقض القومي التركي ـ الكردي والتأثير على الحزب كي لا يتجاوز حاجز العشرة في المئة، ومنع متعاطفين أتراك مع الحزب الكردي اليساري من التصويت لمصلحته مجدداً. في هذا السياق، يستخدم أردوغان الحرب على «داعش» كغطاء للحرب على الأكراد داخل تركيا وخارجها، ما قد يدخل تركيا في دوامة من العنف، تذكر بما كان عليه حالها في الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم.
رهان غير مضمون النتائج
في اللحظة الراهنة، لا تبدو مقامرة أردوغان بالدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة مضمونة النتائج. على العكس، تشي المعارك الدائرة مع الأكراد داخل تركيا وخارجها، وقمع الاحتجاجات الداخلية بتزايد المعارضة التركية لأردوغان. بحسب استطلاع الرأي المذكور أعلاه، فقد زادت شعبية «حزب الشعوب الديموقراطية» الكردي من 13 في المئة في الانتخابات الأخيرة إلى 14 في المئة حالياً. ومن المتوقع ان يزداد الأمر سوءاً لتركيا عموماً في الأشهر المقبلة حتى إجراء الانتخابات المبكرة، حيث ستتوسع حالة عدم الاستقرار السياسي وتتفاقم الأزمة الاقتصادية ويستعر أوار الحرب مع الأكراد، ولعل النتيجة الاقتصادية الأهم لعدم الاستقرار السياسي هي تدهور سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار إلى ثلاثة ليرات تركية لكل دولار. الحرب على الأكراد تعني أن تركيا تخوض راهناً حربين في وقت واحد: واحدة في الداخل مع الأكراد وأخرى في الخارج مع «داعش». وطبقاً لأرقام وكالة الأناضول التركية للأنباء، فقد قتل خلال الشهر الأخير فقط 771 مقاتلاً كردياً ينتمون إلى «حزب العمال الكردستاني» المعارض من جراء العمليات التركية ضدهم، منهم 430 جراء القصف الجوي على شمال العراق و260 على الأراضي التركية. وفي انعكاس لحالة الاستقطاب القومي المتفاقمة والتي يؤججها أردوغان لأسباب انتخابية صرف، فقد أعلن الجيش التركي عن إنشاء أكثر من مئة منطقة مما يسمى «مناطق أمنية خاصة» في المناطق الكردية في تركيا. وبالمقابل، وبعد نداء من «حزب العمال الكردستاني»، فقد أعلنت اثنتي عشرة مدينة تركية تقطنها غالبية كردية، ومن ضمنها مدينة سيرناك التي يقطنها ستون ألف مواطن، عن «حكم ذاتي» من جانب واحد، في تطور هو الأخطر على تماسك تركيا الداخلي منذ عقود مضت.
يكثف أردوغان سياساته الحربية ضد الأكراد، لتوفير الاستقطاب القومي اللازم للنتيجة الانتخابية التي يرجوها، ومع ذلك لن تحل الانتخابات أي شيء، وإنما ستعطي الفرص لأحزاب المعارضة في مراكمة المزيد من المقاعد. في هذه الأجواء الملتهبة، تبدو الحكومة الائتلافية حلاً أفضل لمشاكل تركيا مع الامتناع عن الانتخابات المبكرة، حيث يمتلك حزبا الوسط «حزب العدالة والتنمية» و»حزب الشعب الجمهوري» حوالي 65 في المئة من مقاعد البرلمان الحالي، وكان من المنطق أن يشكلا معا الائتلاف الحكومي، إلا أن طموحات أردوغان تسير في طريق المعادلات الصفرية: إما فائز بكل شيء أو خاسر لكل شيء. لذلك، ربما نشهد مفاجأة كبرى تنتهي بتشكيل أحزاب المعارضة الثلاثة لائتلاف حكومي يطيح بحزب أردوغان نهائياً من مقاعد السلطة، وهو احتمال لا يمكن استبعاده نهائياً من قائمة الاحتمالات.
الخلاصة
طرح أردوغان سؤالاً على الناخب التركي في الانتخابات الماضية، وجاءه الرد واضحاً. لكن أردوغان يعاني ضعفاً في السمع ويود طرح السؤال مرة أخرى، والأرجح سيأتيه ذات الجواب مجدداً. لذلك فمن المرجح أن يتشكل البرلمان التركي بعد الانتخابات البرلمانية المبكرة من ذات التشكيلة الحزبية الراهنة، وأيضاً بالمشاكل الملحة التي تواجهها تركيا ذاتها. لا يلعب أردوغان هنا سياسة بقدر ما يلعب بالنار. لن تحتمل تركيا، التي تعاني من عدم استقرار سياسي وأمني واقتصادي متزايد، انتخابات برلمانية جديدة لا يحصل فيها حزب على أغلبية بمفرده، وتنعدم فيها الفرصة لتشكيل حكومة ائتلافية لقيادة البلاد. فأضت طموحات أردوغان العارمة على حدود النظام السياسي التركي ونطاق الممكن إقليمياً، وربطت الاستقرار في تركيا بمصيره ومصيرها. وحتى لو افترضنا ـ جدلاً ـ أن رهان أردوغان في الفوز بأغلبية برلمانية عبر منع الأكراد من دخول البرلمان مجدداً سيتحقق، إلا أن الثمن الفادح الذي ستدفعه تركيا حينها من استقرارها سيكون أكبر بكثير من قدرة أردوغان على مجرد البقاء في المشهد السياسي التركي!
-----------------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 24-8-2015.
رابط دائم: