في خضم التراجيديا العسكرية والحياتية الماثلة في اليمن ينبري مجدداً سؤالا الوحدة والانفصال بوصفهما سؤالين مركزيين يتطلبان وقفة وإجابة.. لكن مثل هذه الوقفة وتلك الإجابة بحاجة إلى استرجاع تاريخي ومفاهيمي حتى نعرف ما نحن فيه وما نحن قادمون عليه.
المسمى التاريخي لليمن لا علاقة له بداية بالجغرافيا السياسية القائمة، وهذا لا ينطبق على اليمن فقط، بل على كامل الجغرافيا العربية والإنسانية التي شهدت على مدى التاريخ المعروف انزياحات في مساحاتها ومسمياتها، وبالتالي فإن اليمن اسم تاريخي يتجاوز حدود المفهوم الراهن، ولا يمكن لهذا المسمى أن يتحوصل في جمهورية شمال اليمن سابقاً، أو في جمهورية جنوب اليمن سابقاً، مع إقرارنا الكامل بأن جغرافية الجمهورية اليمنية الراهنة هي جغرافيتا الشطرين السابقين، وذلك بمقتضى القبول الناجز لهذا المسمى من قبل النخب السياسية والثقافية في شطري اليمن سابقاً. ففي شمال اليمن وبسقوط دولة الإمامة المتوكلية، توافق الجميع على تسمية الجمهورية العربية اليمنية، وفي الجنوب وبمجرد مغادرة البريطانيين وتسليم السلطة للجبهة القومية كانت التسمية (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية) والتي تم تعديلها لاحقاً بإلغاء تسمية (الجنوب) واستبدالها بتسمية (الديمقراطية)، ليصبح المسمى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بدلاً من جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.
لكن التاريخ لم يبدأ بجمهوريات شمال وجنوب اليمن، فقد كانت (المملكة المتوكلية اليمنية) سابقة على جمهورية سبتمبر في صنعاء.. كما كانت السلطنات والمشيخات سابقة على جمهورية أكتوبر في عدن، بل إن مشروع اتحاد الجنوب العربي كاد أن ينبجس من تضاعيف المخاض العسير لفترة ما قبل استقلال الجنوب لولا قناعة بريطانيا بتسليم السلطة للجبهة القومية لأسباب ما زالت قيد الذاكرة الأرشيفية البريطانية العتيدة.
مما سبق نستنتج سلسلة من المشروعات الافتراضية التاريخية المعاصرة، فبالقدر الذي نجد فيه المصوغات المنطقية لاستمرار الوحدة في كيان مغاير لكيان الجمهورية الأوتوقراطية المركزية الموروثة من نظام صالح.. بنفس القدر نجد المصوغات المنطقية للعودة إلى الوراء.. يتساوى في الحق الافتراضي المطالبون بعودة جمهوريتي (العربية اليمنية) و(اليمن الديمقراطية)، والمطالبون بعودة الإمامة الهاشمية التاريخية في الشمال، والسلطنات والمشيخات في الجنوب، وحتى المطالبون بإحياء مشروع اتحاد الجنوب العربي، علماً بأن صفة الجنوب العربي تنساب لتطال كامل الجنوب الجغرافي العربي الذي يأبى الاختزال في الجغرافيا المكانية الراهنة لجنوب اليمن.
لكن السؤال الذي يترافق مع الحق الافتراضي في الحنين إلى الماضي القريب هو سؤال التاريخ ومقتضياته، وسؤال الزمن ومتغيراته، وعلى كل الحالمين الواهمين بالاسترجاعات التاريخية أن يعرفوا أن من يطالب بعودة الإمامة يمتلك ذات الحق الأدبي لمن يطالب بعودة السلطنات الرشيدة في جنوب اليمن، وعودة مشروع الجنوب العربي برغم التسمية المخاتلة، بل وعودة التجربتين الأقرب في الجنوب والشمال.. لكن التاريخ يأبى ذلك، لأنه لا يعود إلى الوراء بذات الشكل والمضمون، بل يعيد إنتاج الماضي بكيفيات جديدة تتسق مع المستجدات والحقائق، وتذهب إلى المضامين الجوهرية لا الأشكال الفاقعة، وعلينا نحن اليمنيين أن نتعلم من حكمة الصين الكبرى التي قالت بصين واحدة ونظامين، وقالت أيضاً: ليس مهماً ما لون الهرة، بل المهم أن تجيد اصطياد الفئران.
تعمدت إيراد هذه التفاصيل ليقف القارئ على فوضى المصطلحات والمفاهيم، وذلك القدر الكبير من الاستيهامات المقرونة بمطالب الوحدة (المقدسة) والانفصال (المقدس)، لنكتشف أن الكثيرين ما زالوا واقعين في قبضة الأوهام وعدم القدرة على التفكير السليم.. وما أراه الآن مطلوباً وملحاً يتلخص في وحدة توافقية لا مركزية اتحادية تغادر وحدة مايو البائسة، وتستعيد حقيقة موضوعية مؤكدة تتلخص في الكيانين السابقين على وحدة مايو، فيما أسميه (يمن واحد في نظامين) ومداها المنطقي فيدراليتان في الشمال والجنوب.. يتحدان في كونفيدرالية واحدة، وبهذا المعنى سيتم شرعنة الدولة العصرية اللامركزية في البعدين الشمالي والجنوبي، فيما يتم الحفاظ على الدولة الواحدة في نظامين يتنافسان في النماء لا التقاتل والتناحر، وعلى أن تشمل هذه المنظومة كامل الجغرافيا اليمنية الراهنة، وأن يصار إلى عقد اجتماعي جديد ينطلق من مفهوم المواطنة العصرية، وتحرير الذمة المالية والإدارية والتنموية، وتوسيع ملعب المشاركة بقوة القانون لا المنن التي تمنحها السلطة، واعتبار كامل المعطيات الماضية ترميزات دلالية تعزز التنوع، وتجعل الأنساق الحياتية المتنوعة قيماً رفيعة للاعتناء بمقام الدولة الاتحادية الجديدة.
------------------------------------
* نقلا دار الخليج، 10/8/2015.
رابط دائم: