ليست الأزمة الاقتصادية اليونانية سوى بالون اختبار لصمود الاتحاد الأوروبي أمام أزمات اقتصادية أخرى مستعصية، مرشحة للإنفجار في الأيام المقبلة.
فهذه الأزمة التي أثارت قلقاً بالغاً في الأسواق العالمية، وترددت أصداؤها في كل زاوية من كوكبنا الأرضي، وكانت لها تداعياتها المباشرة، على أسواق الأسهم، بما في ذلك الأسواق الخليجية، مؤدية إلى تراجعات واضحة في مؤشراتها أسواقها المالية. وهي ليست الأزمة الوحيدة التي تعانيها منطقة اليورو، إن في شكلها، أو في نتائجها المرتقبة.
لقد أدت الأزمة الاقتصادية اليونانية، واتساع الفروقات بين الغنى والفقر، وتفشي ظواهر البطالة، إلى وصول حكومة يسارية إلى سدة الحكم.
وكان أول رد فعل للحكومة المنتخبة الجديدة، هو اعترافها بالعجز عن مقابلة استحقاقات الدائنين، وبشكل خاص صندوق النقد الدولي، ورفضها قبول الشروط واقتراحات إصلاح النظام الاقتصادي اليوناني، التي طرحها هذا البنك، بسبب ما تفرضه من تقشف حاد على البلاد، تضيف المزيد من البؤس إلى الحالة الاقتصادية المزرية التي تمر بها.
ويبدو أن هذه الحكومة قد وضعت في حسبانها أن خضوعها لشروط صندوق النقد، سيخل أولاً ببرنامجها الانتخابي الذي مكنها من الوصول إلى سدة الحكم.
ليس ذلك فحسب، بل إن رفع أسعار السلع الغذائية، والوقود والمواد الأساسية الأخرى، في مجتمع مثقل بأزماته الاقتصادية، ربما يؤدي إلى انفجار تظاهرات غضب حادة، لا يمكن لأحد التنبؤ بنتائجها.
والأزمة في حقيقتها ليست من نتاج فشل الاقتصاد اليوناني في النمو، بل هي انعكاس لأزمة اقتصادية عالمية بدأت في أواخر عام 2006 وبداية عام 2007، وكانت بداياتها في الولايات المتحدة الأمريكية، في عهد الرئيس جورج بوش، وعرفت في حينه بأزمة الرهن العقاري.
وقد تفاعلت عوامل هذه الأزمة، لتنتشر كالنار في الهشيم في مجمل أنحاء العالم، ولتشكل إعاقة حادة للاقتصاد اليوناني، في أكتوبر/تشرين الأول عام 2009، عندما أقرت الحكومة المنتخبة آنذاك، بأن الحكومة التي سبقتها قامت بتزييف الحسابات القومية. تجاهل كثير من المحللين الأسباب الحقيقية للأزمة، واعتبروا تزييف الحسابات القومية، السبب الرئيسي فيها. وغاب عن تلك التحليلات، أن اليونان جزء صغير من اقتصاد عالمي كبير، شهد أزمة اقتصادية كبرى، هي أزمة الرهن العقاري. لقد أثرت هذه الأزمة في الاقتصاد العالمي بأسره، وتسببت بخروج مصارف وبنوك كبرى من الأسواق العالمية.
وكان من نتائجها أزمات اقتصادية حادة في أوروبا، لعل الأبرز منها ما شهدته اليونان والبرتغال وإسبانيا من أزمات، بقيت من دون حل جذري حتى هذه اللحظة، وأدت إلى تغيير ملحوظ في مزاج شعوب هذه الدول تجاه سياسات المقرضين والدائنين، ومؤسساتها.
وعندما تفجرت الأزمة الاقتصادية العالمية، وجد الشعب اليوناني نفسه في وضع لا يحسد عليه، بعد أن ربط مصير اقتصاده المحلي بعجلة الاقتصاد الأوروبي والعالمي، بما يعنيه هذا الارتباط من خضوع للشروط التي تفرضها المؤسسات الناظمة لسداد الديون، ومنظمة التجارة الدولية، وللعلاقات الاقتصادية بين دول الاتحاد الأوروبي.
ولأن لكل أزمة مستفيدين من نتائجها، فقد استغل المضاربون نتائج الأزمة الاقتصادية التي عمت أوروبا، فعمدوا إلى بيع سندات الاقتصاد القومي لهذه الدول، بأبخس الأثمان.
وخسر اليورو أكثر من 20% من قيمته، مقارنة بأعلى مستويات بلغها، وصار من المألوف الحديث عن احتمال انهياره. وفي ما يتعلق بالأزمة اليونانية، بلغ الأمر بخبراء الاقتصاد الأوروبيين، حد مطالبة اليونان برهن أو بيع سيادتها، وعرض جزرها الكثيرة، بالمزاد العلني.
ولا شك في أن ما حدث في اليونان تنسحب عليه لعبة الدومينو، فوجود أزمة اقتصادية في بلد يرتبط بمنطقة اليورو ويحظى بعضوية الاتحاد الأوروبي، ستترك تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة، في الاقتصاد الأوروبي بأكمله. لقد فاقت ديون اليونان، الإجمالية 350 مليار يورو، معظمها لبنوك أوروبية، وتحديداً للبنوك الفرنسية والألمانية.
ومن غير شك فإن هذه البنوك ستتضرر كثيراً، إذا انسحبت اليونان من منطقة اليورو أو أعلنت إفلاسها، أو حتى في حالة تأكد عدم قدرتها على السداد، حيث إن قيمة هذه الديون على شكل سندات ستنخفض أو تنهار. وتدرك الحكومات الأوروبية القوية في اقتصاداتها، كفرنسا وألمانيا، أن أزمة اليونان ليست سوى البداية، في سلسلة طويلة. فهناك احتمال بروز حالات مماثلة في البرتغال وإسبانيا وإيرلندا وسلوفاكيا وإيطاليا. وقد بدأت عوامل التخلخل الاجتماعي تفصح عن ذاتها في صيغة احتجاجات على الأزمة. وليس من المستبعد في ظل هذه المستجدات، بروز حكومات يسارية مماثلة، كتلك التي برزت في اليونان، بما يهدد عملياً بانفلات الأمور، وصعوبة السيطرة عليها. لقد كانت مقدمات الوحدة الأوروبية، بروز مشروع مارشال، لإعادة إعمار ما خلفته الحرب العالمية الثانية.
ونشأ حلف الناتو ليشكل مظلة أمريكية نووية تحمي أوروبا الغربية، إبان الحرب الباردة التي استعرت بين الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الرأسمالية. وهكذا حلق مشروع الوحدة الأوروبي، بجناحين: اقتصادي وعسكري. وكان هذا التطور مدعاة لتسوية تاريخية، فرنسية ألمانية، لخلافات استعرت عدة قرون. وقد وجد صناع القرار في البلدين، أن لا مخرج لصراعاتهما الدامية، سوى الشراكة الاقتصادية. وهكذا كانت فرنسا وألمانيا، رائدتين في مشروع السوق الأوروبية المشتركة. وتحققت السوق الأوروبية المشتركة، وتوسعت مفاعيلها، لتنتقل لاحقاً إلى الوحدة الأوروبية. وكان الركن الأساسي في هذه الوحدة، هو إيجاد عملة مشتركة، والعمل على إيجاد أوروبا قوية.
ولن تقبل أوروبا بانهيار مشروعها وتعود إلى نقطة البداية، فالتحول الذي حصل، لم يكن اقتصادياً فحسب، بل إن له أذرعه العسكرية والسياسية، ومكتسبات طالت كل فرد في القارة.
في المدى المنظور لن ينهار اليورو، ولا الاتحاد الأوروبي، فالكل في أوروبا رابح من هذه المشاريع، والكل حريص على البقاء ضمن منطقة اليورو، والمكتسبات التي حققتها الوحدة الأوروبية.
لكن الأزمات الاقتصادية في القارة سوف تستمر، ما لم تتم إعادة تركيب الهياكل الاقتصادية، لتخلق محفزات جديدة للعمل، خارج قانون آدم سميت «دعه يعمل»، بطرق تؤمن الاستقرار والعدل.
--------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 14/7/2015.