فيما يستمرّ التفاوض النووي جارياً في فيينا بين إيران والدول الست الكبرى، بين انفراجة وعرقلة، يبقى الأهم معرفة الرهانات التي يعلّقها كلا الطرفين الإيراني والأميركي على المستقبل في مرحلة ما بعد المفاوضات النووية. كلّنا يعلم أن الجسم الأساسي للاتفاق النووي أصبح جاهزاً، وأن التفاصيل التقنية المتعلقة بالمفاوضات هي تفصيلة صغيرة للغاية من الصورة الأكبر. يتصارع الطرفان الأميركي والإيراني على مستقبل إيران في مرحلة ما بعد إبرام الاتفاق النهائي، الذي انطلق قطاره من محطته بالفعل سواء تأخر أو تقدم موعده أياماً أو حتى أسابيع.
رهانات إيران: طريق الحرير الجديد
تجسّد سياسات الرئيس حسن روحاني رهانات إيران في التحول إلى قوة اقتصادية كبرى، وهي رهانات لن تجد طريقها إلى التحقق إلا بعد رفع العقوبات الاقتصادية على إيران، تلك التي عزلت البلاد وكبّدتها خسائر اقتصادية فادحة. لذلك، ومبكراً جداً، أي منذ حملته الانتخابية الرئاسية العام 2013، ركز روحاني على ضرورة حلّ الملف النووي سلمياً وكسر العزلتين السياسية والاقتصادية على بلاده. وبدا واضحاً منذ تشكيل حكومته في صيف العام 2013 أن روحاني يولي أهمية فائقة لوزارة الخارجية التي ستقود المفاوضات النووية، ولوزارات المجموعة الاقتصادية التي ستهيئ الأرضية والإطار لسياسات اقتصادية تشجع الاستثمار الأجنبي المباشر، ذلك الذي سيسيل لعاب الشركات الكبرى حول العالم للدخول إلى السوق الإيرانية الواعدة، فيضغطون بالتالي على حكوماتهم بغرض إنجاح المفاوضات النووية.
وجاء تعيين وزراء المجموعة الاقتصادية من ذوي التوجّه النيوليبرالي مقصوداً تماماً، لأن ذلك «سيرفع عوائق كثيرة من أمام ترطيب العلاقات الإيرانية - الأميركية، بحيث يحصر الخلاف في نظرة كل من إيران وأميركا للعالم والمنطقة بالمنظور السياسي فقط» (مصطفى اللباد - «السفير»: حكومة روحاني الجديدة تكشف انحيازاتها مبكراً 12/8/2013). بمعنى آخر، تراهن حكومة روحاني على السوق الإيراني الواعد بملايينه الثمانين وقدراتها الاقتصادية المتحررة من العقوبات للسيطرة على المنطقة من غير وسيلة السلاح النووي.
تملك إيران من الآن مشروعات جاهزة للعمل عليها للتحول إلى مركز «طريق الحرير الجديد»، عبر إنشاء مشروعات عملاقة تربط إيران بجيرانها الأقربين والأبعدين، مثل إقامة موانئ جديدة على بحر العرب وتوسيع المطارات القائمة لاجتذاب رحلات طيران مباشرة وسائحين من شرق آسيا، ومدّ خطوط أنابيب الغاز الطبيعي جنوباً إلى الهند وباكستان وشمالاً إلى تركيا وأوروبا وبالتوازي معها خطوط سكك حديدية في الاتجاهين. وفي العام الماضي، افتتح خط سكة حديد جديد بملكية إنكليزية تحت اسم «مجوهرات فارس»، يصل بين بودابست وعدد من المدن الإيرانية مثل مشهد ويزد وشيراز وأصفهان، كباكورة لسياحة أوروبية واعدة. كما تزمع إيران إقامة ست مناطق حرة لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية بالتركيز على إعادة التصدير وعلى قطاع البتروكيماويات. باختصار، تراهن إيران على التحول إلى المركز الاقتصادي الممتاز بين شرق آسيا والشرق الأوسط. ولذلك الغرض، تراهن إيران على تحييد أميركا سياسياً عبر تحسين العلاقات معها، وفي الوقت نفسه الانفتاح على بقية القوى الكبرى في العالم مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي والدول النافذة مثل اليابان والهند وكوريا الجنوبية. فعلى سبيل المثال، تحفر الشركات الصينية الآن الأنفاق عبر جبال البرز الصخرية لربط طهران وبحر قزوين في الشمال، كجزء من خطة الصين لتطوير البنية التحتية الإيرانية، كي تصل عبرها برياً إلى الشرق الأوسط. بمعنى آخر، تريد حكومة روحاني أكل الطعم مع الاستهانة بالسنارة الأميركية.
الحرس الثوري عائقاً
تسيطر مؤسسة الحرس الثوري الإيراني حتى الآن على القرارات الاستراتيجية في الملفات الإقليمية ومشروعات البنية التحتية الكبرى في إيران، وتؤثر إلى حد ما في المفاوضات النووية. الحرس الثوري ليس مؤسسة عسكرية فحسب، بل إنه إمبراطورية صناعية ذات نفوذ سياسي رهيب تصاعد خلال العقد الأخير، خصوصاً في فترة الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. وبسبب العقوبات الاقتصادية، فقد دانت لمؤسسات الحرس هيمنة غير مسبوقة على الاقتصاد الإيراني (تتراوح بين سدس إلى ربع الناتج المحلي الإجمالي الإيراني). وتسيطر مؤسسة الحرس الثوري ووزارة الدفاع على ثلثي الأراضي في منطقة طهران الكبرى، وهو ما يشبه أنماط سلوك المؤسسة العسكرية في دول أخرى مثل مصر وباكستان. وأيضاً في مجال التصدير والاستيراد للمؤسسة اليد الطولى، عبر «شركات الواجهة» التي تراوغ العقوبات الاقتصادية عبر بلدان ثالثة. حتى الآن، ربحت مؤسسات الحرس الثوري من الحصار الاقتصادي المفروض على إيران، فمع خروج شركات النفط الأوروبية من السوق الإيراني بموجب العقوبات، تقدمت مؤسسات الحرس لتحل محلها، وفازت الشركات التجارية التابعة لها بكل العطاءات من دون مزايدة علنية. وتُطور أضخم شركة تابعة للحرس، «خاتم الأنبياء»، حقول بارس الجنوبية للغاز الطبيعي، كما وقعت عقداً لبناء خط جديد من مترو طهران وخط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من إيران إلى باكستان. ويُعتقد على نطاق واسع أن مؤسسة الحرس تسيطر على قطاعات مثل السياحة والنقل والطاقة والبناء والاتصالات والانترنت. وإذ عاشت إيران في العام 2009 مرحلة قمع «الحركة الخضراء» المؤيدة للمرشح الرئاسي آنذاك مير حسين موسوي، لم تكن هناك مفارقة ظاهرة للعيان في أن تشتري مؤسسة الحرس في العام ذاته شركة الاتصالات الإيرانية المملوكة للدولة بما قيمته ثمانية مليارات دولار. لكل ذلك، عارضت مؤسسة الحرس المفاوضات النووية بشعارات رنانة، لكن السبب الحقيقي تمثل في خشيتها من فتح السوق الإيراني أمام الشركات العالمية، ما يقوّض مكاسبها شبه الاحتكارية.
رهانات أميركا: السيطرة على مفاصل الاقتصاد الإيراني
تعتقد واشنطن أن الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة، وبالتالي إذا ما تمّ فتح السوق الإيراني الواعد أمام التجارة الدولية بعد رفع العقوبات وانهيار أسوار العزلة التي فرضتها إيران على نفسها وفُرضت عليها في آنٍ، ستسنح فرصة ثمينة لواشنطن لتشكيل مستقبل إيران السياسي، عبر التحكم في مفاصل اقتصادها. ومن شأن تحقق الهدف الأخير، القدرة على توجيه السياسة الإيرانية بما يخدم أهداف أميركا العالمية والإقليمية، بحيث تمثل إيران بثقلها السياسي والاقتصادي والجغرافي والسكاني إضافة لرصيد واشنطن في المنطقة. بمعنى آخر، تحويل المفاوضات النووية الحالية إلى نقطة انطلاق لهذه المتوالية السببية، وهي استراتيجية سبق وأن مارستها واشنطن في دول أخرى في المنطقة وخارجها، وأتت أكلها إلى حد كبير. هنا لا تعتمد واشنطن على الأدوات العسكرية، وإنما الاقتصادية الكاسحة. لن تحارب أميركا إيران بسلاحها الجوي المتفوّق، ولا بقنابلها الذكية أو صواريخها العابرة للقارات، وإنما بشركاتها العملاقة العابرة للقارات، وبنفوذها المالي الكوكبي وبالشبكات الدولية التي تسيطر فعلياً على الاقتصاد العالمي. تمثل إيران من المنظور الأميركي أحد الأسواق الناشئة الواعدة بملايينها الثمانين، وبثرواتها الطبيعية وموقعها الجغرافي الفريد، لذلك سيكون على أميركا استثمار حاجة إيران إلى استثمارات ضخمة في قطاع الطاقة تصل إلى مئات المليارات من الدولارات، بغرض صيانة وتحديث وتوسعة هذا القطاع الاقتصادي الأهم، كي تستعيد إيران موقعها في سوق الطاقة العالمية. من الآن تضع أميركا مؤسسة «خاتم الأنبياء» التابعة للحرس على قائمة العقوبات الاقتصادية، ناهيك عن افتقار هذه المؤسسة النسبي إلى التكنولوجيا اللازمة لتنفيذ تلك المشروعات العملاقة في قطاع الطاقة، وبالتالي فالمنافسة تبدو محسومة مسبقاً. أما في قطاع التجارة الخارجية والاتصالات، فسترغب شركات الواجهة التابعة للحرس منطقياً في الدخول بشراكات مع الشركات الأجنبية بعد رفع الحصار للحفاظ على حصتها بالسوق. وحتى بافتراض أن هذا أمراً سيتمّ القبول به، فمعناه بالمحصلة أن الشركات الأميركية والشبكات الدولية ستمدّد نفوذها الناعم داخل مفاصل مؤسسة الحرس، بالشراكات التجارية وليس بالمواجهات العسكرية. المحور الثاني للرهان الأميركي يتمثل في ما يطلق عليه «الجيل الثالث» أو «فجوة الأجيال»، بين الأجيال المنتمية إلى الثورة الإسلامية وقيمها في معاداة الغرب وبين جيل الشباب أقلّ من خمسة وثلاثين عاماً، والذي يشكل إحصائياً ثلثي الشعب الإيراني، ذلك التوّاق للانفتاح على الغرب بقيمه المعولمة. ويلاحظ هنا أنه عند التسليم بوجود «فجوة أجيال»، فمن الطبيعي نشوء «فجوة قيم» مترتبة عليها، تراهن أميركا على توسيعها وإدامتها. باختصار، يتمثل جوهر الرهان الأميركي في أن الشبكات الدولية والشركات العابرة للقارات ستفرض بالنهاية غاياتها و «قيمها المعولمة» على إيران اقتصادياً أولاً ومن ثم سياسياً ومجتمعياً.
الخلاصة
ستلعب عوامل كثيرة دورها في حسم الرهانين الأميركي والإيراني، تتقدّمها كفاءة الطرفين في إدارة مواردهما الصراعية، وأيضاً الأدوار المرتقبة للأطراف الثالثة المتضررة من تحقق أي من الرهانين الإيراني أو الأميركي مثل روسيا والصين ودول جوار إيران الجغرافي. بغض النظر عن نتيجة المحادثات النووية الجارية الآن، فقد غادر القطار محطته بالفعل ومعه انطلقت الرهانات من عقالها!
--------------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 13/7/2015.
رابط دائم: