نلاحظ في نصوص لخبراء اقتصاديين عرب ميلهم لاعتماد مقاربة قومية في تشخيص تشويهات النمو المتشابهة بين البلدان العربية وفي تحديد إمكانات التنمية واولوياتها، وذلك مع اختلاف التأشير عليها والربط بينها. وهي مقاربة تستند بمجملها إلى ما يُسمى بالمنهج الفينومينولوجي القائم على العرض الوصفي للظواهر البارزة في الحقول المجتمعية المدروسة ولا يقوم على تنميط ـ تجريدي (Ideal ـ type) للظواهر بعد التدقيق في تصنيف اختلافاتها، كما هو الحال في المقاربة المُفسّرة او المُفهّمة كما يقول ماكس فايبر. ويميل الكثير من الخبراء الدوليين في نهجهم الوصفي لظواهر تعوّق التنمية الى تجاوز وحدة الحقل المجتمعي القطري لهذه الظواهر باتجاه ما يفترضونه وحدة الحقل القومي القائمة على تشابهاتها بين الأقطار، علماً أن نطاق أي كيان سياسي لكل قطر يجب أن يُعتبر حقلاً مجتمعياً مختلفاً، أولا وقبل كل شيء بفعل اختلاف مزايا وميول الأطراف الفاعلة فيه. وذلك لأنه يعود إلى اختلاف العلاقات الموضوعية التي يفرضها ميزان القوى السياسية والاقتصادية والثقافية بين الجماعات والمؤسسات المتأثرة بتوجهات تلك الأطراف والى اختلاف العلاقات الخارجية لهذه القوى.
وبناء على هذا التعريف للحقل المجتمعي للدولة القطرية ولوحدة بنيتها الكيانية المتمأسسة على امتداد حوالي قرن على الأقل، سبقت الاستقلال وأعقبته، داخل حدود النطاق القطري المعترف بها أهلياً ودولياً، تصبح حدود حقل البحث في التنمية هي أولاً حدود الحقل المجتمعي القطري وليست الحدود السياسية ـ الايديولوجية لوحدة الحقل القومي المفترضة لمجرد تشابه الظواهر بين الأقطار. ونحن نرى أن التوحُّد بين هذه الأقطار أو بين بعضها، قد يغدو ضرورة موضوعية عندما تصبح مصالح الأطراف الفاعلة في موازين القوى القطرية الاقتصادية والسياسية مرتبطة بالانتقال إلى حقل التكامل القومي والإقليمي أي إلى موازين قوى أعمق ترابطاً وأقدر على المواجهة والمنافسة على صعيد الأسواق الخارجية. وهذا يعني باختصار أن تكامل الأسواق وتوحّد الأقطار العربية الإقليمية هما عمليتان يمكن أن تتدرّج اليهما التنمية المنفردة لكل واحد المجتمعات العربية ولا يمكن أن تنطلق منهما.
إن تركيز الكثير من الخبراء العرب على مؤشرات الظواهر المتشابهة لتشوّهات النمو في البلدان العربية غير النفطية والفقيرة، هي مؤشرات لا تقتصر على هذه البلدان فقط، يؤدي من دون ريب، بقصد أو من دون قصد، إلى التخفيف من المسؤوليات الخاصة بكل من الحكومات القطرية عن أسباب تعويق أو تشويه النمو المسؤولة عنها، وذلك عن طريق توجيه الاهتمام إلى توجهات قومية تُروّج لتحقيق آمال مشتركة لا تُسأل عن صدقية تنفيذها أي حكومة بمفردها. وهنا نُذكّر بما سبق وشهدته القمم العربية على امتداد أكثر من نصف قرن من المداولات والقرارات لإنشاء مؤسسات قومية تكنوقراطية اتحادية لمواجهة العجوزات المتشابهة التي تعانيها الاقطار منفردة، ولكن هذه المؤسسات ظلت قاصرة في مكاتبها عن معالجة أي من العجوزات العربية المشتركة التي أُنشئت من اجل مواجهتها على اصعدة الأمن العسكري او الامن الغذائي او التكامل الاقتصادي وغيره.
بعد قراءة مقارنة لخمسة نصوص لخبراء اقتصاديين عرب (*) لاحظنا أنه يتكرر فيها اعتماد المقاربة القومية عينها، حيث يُبرزون التشابه في معوقات النمو في الأقطار العربية والتقارب في شروط تجاوزها مُتمثلة في اقتراحات جذّابة لتغييرات جذرية او طموحة على وجه العموم. اقتراحات تُقارب في جذريتها التغييرات التي يقترحها الدكتور عمر الرّزاز في توصياته للتوجه نحو «العناصر السبعة لعقد اجتماعي عربي جديد ونحو دولة الإنتاج». وهي توصيات يستعصي تحقُّقها في ظل التفارقات الكبيرة لأشكال ومستويات نمو المؤسسات السياسية والاجتماعية بين الأقطار. وإذا كانت مقاربة الدكتور دارم البصّام، في نصه المشار إليه أدناه، قد راعت وحدة الحقل المجتمعي القطري إلا أن تصوراته لـ «سياسات التنمية البديلة في بلدان الثورات العربية» لم تكن، في تقديرنا، أقل جذرية واستعصاء عندما ركزت على الملامح المطلوبة «للسياسة الاقتصادية الكلية الصدوقة للفقراء»، حيث افترض إمكان توفر «قوى المساءلة الاجتماعية» والأحزاب السياسية المؤهلة لقيادة عملية جذرية كهذه وتوفر الظروف الإقليمية و/او الدولية المساعدة على «تطبيقات الديموقراطية التشاركية..».
ومن بين نصوص الاقتصاديين الخمسة، المُشار اليها في الهامش أعلاه، اخترنا أن نتوقف أمام نص الدكتور جورج قرم لتقديرنا بأنه الأكثر بلورة لنموذج المقاربة القومية لأشكال تّشوُّه النمو العربي ولمقترحات النمو المنشود التي تبرز معالمها في النصوص الأربعة الأخرى. وقد رأى «النموذج الصالح» في ما تمّ اعتماده في منطقة جنوب وشرق آسيا منذ ما ينوف عن نصف قرن ومكّن بلدانها من كسر حلقة الاقتصاد الريعي الذي ظلت الاقتصادات العربية تنوء تحت ارتداداته. وقد غاب عن نص الدكتور قُرم أن يُميز بين الظروف الجيو - اقتصادية والسياسية المرتبطة بالحرب الباردة التي جاءت مُلائمة سياسياً واقتصادياً لنهوض تلك البلدان الآسيوية الناشئة منذ ما يفوق على نصف قرن من جهة، وبين ظروف دولية معوّقة ارتهنت لها الأنظمة العربية فانقادت الى هدر موارد أقطارها على بيروقراطية استبدادها وجيوشها، فعززت حلقات الاقتصاد الريعي المُهيمن في اقطارها ومنها مصر وتونس قبل انتفاضتيهما وبعدهما.
وإذا كان من الواضح أن الحكومات الجديدة في هذين البلدين قد قصّرت في تطوير «أهداف تنموية بديلة... وسياسات تركز على استراتيجية لتوطين العلم والتكنولوجيا لدى كل الفئات الاجتماعية الريفية المدينية الفقيرة...»، إلاّ أن قُرم لم يُفصِّل في محددات وآليات تجدُّد هذا التقصير عن بلورة أهداف تنموية في أولويات تصل إلى مثل هذا المستوى من تجارب التنمية الناشئة في جنوب وشرق آسيا. فذهب إلى حد افتراض صحة المطابقة بين ظروف تحقق النهوض التنموي الآسيوي منذ ما ينوف على نصف قرن من جهة، وبين إمكانيات تحقق مثل هذا النهوض في دول الانتفاضات العربية من جهة أخرى، طالما أن اقتصادات دول هذين الإقليمين تشابهت منذ أكثر من نصف قرن لجهة غلبة الطبيعة الريعية لاقتصادياتهما.
وأمام اعتماد مثل هذه المطابقة المفترضة، يجد القارﺉ نفسه أمام تشوُّه في نمو المجتمعين المصري والتونسي لا يُفسّر إلاّ بكونهما محكومين بقصور متأصل في ثقافتهما وقيمهما، يحول دون تمكّن النخب في كل منهما من خرق آليات تجدد التبعية الاقتصادية والمالية والتكنولوجية في كل من اقتصاديهما الريعيين القائمين على تصدير المواد الأولية والخدمات والصناعات التحويلية والمساعدات الخارجية، وبقصور عن الانتقال إلى «صوغ سياسات عامة بديلة اقتصادية واجتماعية وتنفيذها على نحو متسارع...». سياسات تحديثية سبق أن أثبتت جدواها في نموذج التنمية في شرق آسيا القائم على الإنتاج الصناعي التحويلي التصديري المنافس في الأسواق العالمية. وهو نموذج لم يتساءل قُرم حول الظروف الدولية التي أشرنا اليها اعلاه ووفرت له الشروط الجيواستراتيجية الملائمة لتحققه في مطلع ستينيات القرن العشرين، وليس قبل عقد من بلوغ نموذج التنمية الياباني مستوى النمو الصناعي الاستقطابي لكوريا الجنوبية وغيرها في شرق آسيا، ولا قبل تبلور النموذج الصيني في اشتراكية السوق وبلوغه المستوى الاستقطابي في هذا الإقليم الآسيوي وبلوغه المستوى العالمي في المنافسة والتصدير الإغراقي الى الأسواق الخارجية.
والى مثل هذه المقارنة المفتعلة ذهب الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى، ولم يتوقف هو ايضاً عند اهمية فارق الظروف الدولية والاقليمية السياسية والاقتصادية التي وفرت للدولة الكورية الجنوبية، بعد خروجها من الاحتلال الياباني المهين، دعماً استراتيجياً عسكرياً واقتصادياً كجبهة أولى في مواجهة المعسكر الشيوعي السوفياتي والصيني وامتداداتهما الآسيوية ممثلة بدولة كوريا الشمالية. وقد سبق للمجتمع الكوري أن تحمل تبعات الاحتلال الياباني بين الحربين العالميتين وفرضه على السلطة الكورية تسهيل نشوء مراكز معنية بتوفير ما سُمّي في ظله بـ»نساء المتعة أو الترفيه» عن جنود الجيش الياباني في محيطات قواعده، وهو «ترفيه» طال مئتي ألف امرأة، شكل الطلب الكوري اعتذار وتعويض الدولة اليابانية عنه وما يزال موضوع نزاع بين الدولتين الآسيويتين.
وفي سياق هذه المواجهة الدولية تمثلت الرعاية الاستراتيجية الأميركية منذ أواخر الخمسينيات بتشجيع الأميركيين للحكم العسكري الحليف على اعتماد نموذج للتنمية منافساً للنموذج السوﭭياتي ومرتبطاً بسوقي القطبين الأميركي والياباني. نموذج يقوم على ما يسمّيه عيسى «منصات إنمائية» تُمكّن الاقتصاد وتتعزّز بالحماية وتوفر العمالة الرخيصة من جذب الاستثمارات من هذين القطبين كما سبق وأشرنا، ومن بلوغ مستويات عالمية من التصنيع والمنافسة.
غير أن عيسى رجح في انطلاق النموذج الآسيوي الكوري «وبصفة أساسية» فعل ما يُسميه «الهياكل المحلية أو العوامل الداخلية ممثلة بصفة خاصة في طبيعة تركيب النخب الثقافية السياسية ونظم الحكم»، وقد عزا تميّز النخب الآسيوية في قدراتها على الخرق التنموي بالمقارنة مع تعوقات النخب العربية عن مثل هذا الخرق خلال الحقبة عينها الى ما تتمتع به النخب الأولى من «ذكاء سياسي»، مكّنها من «الاستفادة من تناقضات النظام الدولي...» وتثمير علاقة تبعيتها مع العرب. وهذا ما يقود إلى الاعتقاد بأنها كانت على عكس النخب الثقافية والسياسية العربية التي اعتبر عيسى أن الحكام يمثلونها في نظام السادات، كما في نظام مبارك، وقد دلوا على «غباء منقطع النظير في الادارة السياسية للموارد الوطنية من دون ارادة ذاتية حقيقية...» وعـلى غياب «للحصافة والحكمة» عندهم.
نص للدكتور جورج قرم في مجلة المستقبل العربي عدد 426/2014 تحت عنوان «الاقتصاد السياسي للانتقال الديموقراطي في الوطن العربي»، ونص للدكتور دارم البصام في مجلة عمران عدد 9/2014 تحت عنوان «سياسات التنمية البديلة في بلدان الثورات العربية» ونص للدكتور عمر الرّزاز في كتاب «النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة في الدول العربية ـ الأبعاد الاقتصادية» الصادر العام 2013 بين منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تحت عنوان «من الريع إلى الإنتاج: الطريق الصعبة نحو عقد اجتماعي عربي جديد»، ونص للدكتور بهجت قرني في كتاب «التنمية الإنسانية العربية في القرن الواحد والعشرين ـ أولوية التمكين» القسمان الأول والثاني، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ومنتدى الجامعة الأميركية بالقاهرة. ونص للدكتور محمد عبد الشفيع عيسى بعنوان «حول الاختراق الأجنبي للوطن العربي: مقارنة مع شرق آسيا... ما العمل؟» نشر في جريدة السفير اللبنانية، عددي 25 و26 حزيران 2015.
--------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الأربعاء، 8/7/2015.