يقول الكاتب الاميركي الساخر مارك توين إنه توجد في أميركا ثلاثة أنواع من الأكاذيب: أكاذيب عارية، وأكاذيب ملعونة، والإحصائيات. وينطلق الكاتب الأميركي المرموق كون هالينان وأحد المساهمين في البرنامج الرقابي الشعبي «سياسة خارجية للجميع»، من أن التوازن الرث في الاستطلاعات الأخيرة حول المجابهة العسكرية الشاملة مع «داعش»، حيث 47 في المئة من الأميركيين يدعمون التدخل العسكري و46 في المئة منهم ضده. وهذه صياغة إعلامية متهافتة للرد على الحالة العصابية التي روج الإعلام نفسه لها حول طبيعة «داعش» وكيفية صعودها وانتشارها. ويؤكد في تحليله العميق أن اميركا مغمورة في دوامة جهنمية، حيث لا يمكنها أن ترى العالم على حقيقته. وهي تمر في مرحلة انتقالية بائسة وحادة بين انهيار الحرب الباردة السابقة والصعود الذي لا يمكن تحاشيه لقوى الاستقطاب العالمي الجديدة. فالانخراط في الحروب والاحتلالات، ومنها النموذج العراقي الصارخ، بات من الناحية العملية يصرف اميركا عن المخاطر الجدية التي تواجه الكوكب والإنسانية، ومنها عقابيل الحروب المتتالية وسيادة النمو الاقتصادي المتفاوت وتغيرات المناخ المتسارعة.
الصديق والعدو والاحتياجات الخاصة
ان الانحسار الاقتصادي السياسي العالمي لأميركا يفرض سياسات متغيرة ونوعية. ذلك أن دوائر جديدة بدأت تنهض، لها استقلالية ملموسة عن السياق الاميركي وخارج السيطرة المباشرة لها. ان وهم اميركا بأنها أمة لا يُستغنى عنها بات في ملفات التدوين. وفي كل الحالات، نجد أن مبدأ الرئيس الاميركي السابق كالفن كوليدج، (1923 -1929)، «the business of America is business» هو السائد في التعاملات اليومية. ويشير المؤرخ الاميركي والباحث التقدمي ويليم بلوم الى مسألة جوهرية في البناء الفوقي للسياسة الخارجية الأميركية، حيث يقوم على التقسيم الروماني القديم للقوى التي تواجه الإمبراطورية، فهي إما «صديق» أو «عدو». ويذكر مثالا لافتاً وذا حساسية سياسية جذابة، بأنه في نهاية العام 1989، كتب مدير «المعهد السوفياتي للدراسات الأميركية والكندية» جورجي ارباتوف دراسة مهمة مخاطباً فيها النخب الأميركية الحاكمة: «سوف نقوم بأكثر عمل مرعب لكم، سوف نترككم من دون عدو». إن كلام ارباتوف صحيح في مجرى العلاقات الأميركية السوفياتية المباشرة، لكن الخطأ فيه يكمن في أن الحرب الباردة في حقيقتها لم تكن بين اميركا والسوفيات وإنما بين اميركا والعالم الثالث.
المأزق المركب لقوى الصراع
إن أميركا، التي تكابد مشاكل «مأزق» الانحدار العام، تتساوى في احتياجاتها الخاصة «عضوياً» مع القوى الصاعدة عالمياً، من نمط «بريكس»، في مأزقها المادي الخاص بالاستيلاء على مساحات جديدة في الاقتصاد السياسي الدولي. ويبدو أن القانون نفسه ينطبق بحذافيره على القوى الإقليمية في المنطقة، سواء كانت ضمن النظام العربي «الرسمي»، وفي المقدمة دول الخليج الريعية النفطية، أو خارجه وتحديداً على النمطين الإيراني والتركي والإسلام السياسي الحاكم فيهما. لكن القوى العالمية التي تخوض صراعات الصعود والانحدار الآن، لا تجد عملياً، برغم رغباتها العارمة ومصالحها الإستراتيجية، في النظام العربي الرسمي معيناً لها في عمليات الذهاب والإياب بخصوص التفاهم السياسي أو التناحر العسكري في الإقليم. إن ضعف النظام العربي الرسمي وانهيار أعمدته الأساسية، ومنها المشروع النهضوي الناصري، وتصدع النسيج الوطني، ومنه توسع هوة الاحتدامات الطائفية، يزيد من صعوبة الفرز السياسي الواضح بين اتجاهات السياسة الخارجية العالمية بالنسبة لأميركا من جهة والقوى الدولية الصاعدة من جهة ثانية. علماً أن هذا الضعف يؤدي عملياً الى تصاعد مناسيب «التدخل» الإقليمي غير العربي، بالأساليب السياسية أو بالقوة المسلحة الرسمية أو عن طريق المنظمات السياسية العسكرية، ليكون أحياناً عاملاً أساسياً في لعبة الصراع اليومية، وإيجابياً أيضاً، وأحياناً أخرى بديلاً عملياً، وسلبياً ومدمراً، عن القوى العربية الضامرة في المسرح اليومي للصراع.
تناقضات الصراع وضياع النخب
ليس التناقض الرئيسي قائماً اليوم بين دور العامل الخارجي في الغزو والاحتلال، وعجز العوامل الداخلية في التصدي والمقاومة، بل إنه يتركز في قدرات الاحتلال السياسية المتواضعة في الاستمرار كقوة داخلية اجتماعية ـ سياسية وضياع الفرص المتكررة، بمجرد أن تدهورت قوة الاحتلال العسكرية وانكمشت مساحات الأرض التي كانت تسيطر عليها. يقول صك الانتداب البريطاني (17 حزيران 1920)، المدون في «عصبة الأمم»: «حيث إن حكومة جلالته قد تقررت وكالتها في خصوص العراق، نتوقع جعل العراق مستقلاً تضمن استقلاله جمعية عصبة الأمم، وتكليف الحكومة البريطانية بالمسؤولية لحفظ السلم الداخلي والأمن الخارجي، وبعد انقضاء الإدارة العسكرية، سنعطي السلطة للسير بيرسي كوكس لتنظيم مجلس شورى تحت رئاسة عربي». إن الوضوح في حدود العلاقة بين الاحتلال البريطاني والعراق الخاضع له قاطع في مسؤولية الاحتلال. وإن كلمات سنعطي السلطة للسير بيرسي كوكس كانت كافية لإشعال «ثورة العشرين» المجيدة ضد الاحتلال البريطاني، برغم فشلها السياسي المعروف. أما بخصوص الاحتلال الأميركي، فإن أبواب البرنامج السياسي كانت مشرعة أمام كل الاحتمالات وفي ظل انقسام عمودي بين المتعاونين مع الاحتلال والمناهضين له، وانقسام أفقي بين المتمسكين بالدولة العراقية والراغبين بإطاحتها.
من هذا الركن، فإن النخب السياسية أصبحت في حلقة نارية مفرغة بين الاحتجاج المتعثر ضد قسوة الاحتلال، وهو لا يجدي فتيلا من زاوية مصالحها الأنانية الضيقة، وبين الانصياع لإرادة الاحتلال السياسية أو مشيئته العسكرية. ومن هنا يمكن تفسير أن هذه النخب تعيش ازدواجية عقيمة، فهي انطلقت أحياناً نحو الاستقلالية المحدودة في سلوكها السياسي ضمن هامش الاحتلال، وهي أيضاً تلهث بلهفة نحو التخادم مع الاحتلال. وبهذا المعنى، فإن التغيير قد وصل إلى درجة الاستعصاء الخيالية. بهذا المعنى فإن التغيير المنتظر لم يعد ممكناً أن يحصل من داخل القوى الوطنية الرافعة لواء المقاومة، بسبب انتكاستها السياسية والعسكرية الحالية. وهو لن يظهر في ظل الصراعات المدورة الا من داخل نخب الاحتلال وبموافقة الكوندومينيوم الاقليمي المشرف عليه الاحتلال الاميركي. والحقيقة القاسية انه منذ أكثر من نصف قرن، كان التغيير تحت ظل «الديكتاتوريات» المتعاقبة للبونابرتية العسكرية، هو أيضا من خارج قوى المعارضة الوطنية الحقيقية، ومن داخل الشرائح العليا للبونابرتية المتسلطة. هكذا، لم يفرز التطور السياسي والاقتصادي في مرحلتي «البونبارتية» والاحتلال قوى جديدة متينة ومستقلة ومؤهلة لتحمل مسؤولية التغيير وحمايته. فالقوى الحية التقليدية ماتت في سقف البونابرتية والاحتلال الراهن، ولم تنشر بومة «منيرفا» لحد الآن جناحيها للتبشير في ولادة البديل المرشح لقيادة هذه العملية التاريخية المعقدة.
لقد أخفقت النخب في إيلاء العناية السياسية اللازمة بمفاهيم ومصطلحات حاسمة من نمط: السيادة، الاستقلال، الوطنية، القومية. فهي تعكس بتربيتها الخاصة الساذجة، أو بكونها مصبوغة بالفكر الغربي الثقافي الاستيلائي، المنطلقات نفسها التي تطرحها المدارس الفكرية الاستعمارية الاستشراقية. إن وحدة الذاكرة السابقة مع قوة الحضور الراهن هي ضرورة موضوعية في البناء المنشود. وأن شروخ هذه الوحدة هو الذي يجعل النخب العراقية مصابة بالذهان اليومي بين انحيازها إلى «الحشد الشعبي»، الرامي عملياً الى تكريس السلطة الطوائفية «للتشيع السياسي»، والذي لم يحدث مثله منذ 1400 سنة كما قال قيس الخزعلي أحد قادته، وبين إصرارها على بناء «الحرس الوطني» لكتلة اجتماعية جوهرها «التسنن السياسي»، يكون أداة عسكرية من أجل منع النفوذ الإيراني، كما قال ظافر العاني أحد قادته، وتمتين الحضور الخليجي السياسي والاقتصادي.
-------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، الخميس، 9/7/2015.
رابط دائم: