سواء في الدُّول الدِّيمقراطيَّة، أو في تلك التي تنتحل الدِّيمقراطيَّة رياءً، يذهب النَّاس، عادة، إلى صناديق الاقتراع، بأمل انتخاب حكَّام قد يحقِّقون لهم شيئاً من تطلعاتهم إلى الحياة الطيِّبة، والعيش الكريم، مادِّيَّاً ومعنويَّاً. تلك هي القاعدة. لكنهم قد يذهبون، أيضاً، لمجرَّد حجب أصواتهم عن حكَّام الأمس، عقاباً لهم على ما قد يكون ثبت من فشلهم الذَّريع في تحقيق ذلك الهدف، وقطع الطريق، من ثمَّ، أمام تمكينهم، بالغاً ما بلغت قوَّتهم، من العودة الطليقة لتجريع النَّاس ذات العلقم، عبر دورة حكم جديدة.
ذلك هو ما يُعرف ب «التَّصويت العقابي» الذي رأينا كيف مارسه الشَّعب التُّركي، مؤخَّراً، مع «حزب العدالة والتَّنمية» برئاسة رجب طيِّب أردوغان، بعد ثلاثة عشر سنة بوَّأته الجَّماهير، خلالها، السُّلطة، دورة في إثر دورة.
هذه الانتخابات التَّشريعيَّة تمخَّضت عن فشل هذا الحزب الإسلاموي في حصد الأغلبيَّة المطلقة التي كان يحلم بأن تخوِّله تدعيم رئاسته للجُّمهوريَّة، جرياً على تطلع الإخوان المسلمين، في كلِّ المنطقة، إلى أوسع سلطة يمكن أن يتمتَّع بها من يتبوَّأ، نيابة عنهم، مقعد الرِّئاسة!
وفي مقالة بعنوان «النَّاخبون يعاقبون سياسات جنون العظمة» شرح سايمون تسدول، في «الغارديان»، هذه المسألة «العقابيَّة»، بقوله «إن أردوغان قطع تركيا، طولاً وعرضاً، في حملة انتخابيَّة ليضمن فوز حزبه بأغلبية 330 مقعداً، على الأقل، ليتمكَّن من تعديل الدُّستور، والحصول على سلطات أوسع، لكنه أحرز، فقط، 267 مقعداً، حيث فشل في الحصول حتَّى على الحدِّ الأدنى لتشكيل الحكومة بمفرده». أمَّا أسباب هذا التَّراجع الكبير فقد حدَّدها الكاتب في «البطالة، وتباطؤ الاقتصاد، والحقوق المدنيَّة، وتعثُّر عمليَّة السَّلام الكرديَّة، والمخاوف من إعطاء أردوغان المزيد من الصَّلاحيات التي تحوِّله إلى ديكتاتور»، مشيراً إلى أن أردوغان كان قد وجَّه، قبل الانتخابات، إهانات، وتهديدات، واتِّهامات للمعارضين، والنَّاشطات السِّياسيَّات، والإعلام، وغير المسلمين، والأقليَّات العرقيَّة والثَّقافيَّة في تركيا»، وواصفاً «حزب الشَّعب الجُّمهوري»، أكبر أحزاب المعارضة، بأنه «حزب الكفرة والشَّواذ»! كما تسرَّبت معلومات بشأن اعتزامه «القيام بحملة لقمع الصَّحفيِّين والمنتقدين»، علاوة على حملة سابقة كان قد اتَّهم، من خلالها، هؤلاء، والإعلاميين، بوجه عام، بأنهم «جزء من مؤامرة على تركيا».
الشَّاهد أن «العدالة والتَّنمية» لم يحصل في هذه الانتخابات على أكثر من 42% من الأصوات، بما لا يتجاوز 267 مقعداً برلمانيَّاً بدلاً من ال 400 أو 330 التي كان يتوقَّعها، في حين حصل «حزب الشَّعب الجُّمهوري» على نحو 26%، بما يؤهِّله لشغل 132 مقعداً، و«حزب الحركة القوميَّة» على قرابة ال 20% تؤهِّله ل 82 مقعداً، و«حزب الشُّعوب الدِّيمقراطي»، المؤيِّد للأكراد، على ما يفوق 12%، مِمَّا يخوله دخول البرلمان، لأوَّل مرَّة، بأكثر من 78 نائباً، ويشعل شوارع ديار بكر باحتفالات مستحقَّة لهذه الجَّماعة القوميَّة المناضلة ضمن منظومة التَّعدُّد والتَّنوُّع التركيَّين!
هذه النتائج تمثِّل، بلا شك، أسوأ كابوس بالنِّسبة لرئيس الوزراء أحمد داود أوغلو الذي خاض هذه الانتخابات كزعيم للحزب، لأوَّل مرَّة، وإنْ بدعم كامل من رجب طيِّب أردوغان، فإذا بها تحرمه، لأوَّل مرَّة أيضاً، من تشكيل الحكومة منفرداً، مِا سيضطره، حسب أرجح التَّحليلات الإعلاميَّة، إمَّا للبحث عن شريك في حكومة ائتلافيَّة، وتلك كأس مُرَّة، أو لإفساح المجال لتشكيل حكومة أقليَّة، وتلك كأس علقم، أو لإجراء انتخابات مبكرة، حسب الدُّستور التُّركي، إذا انقضت 45 يوماً دون التوصُّل إلى حل، وتلك مغامرة غير مأمونة العواقب، بالنَّظر للنتائج المشار إليها!
بإزاء هذه الخيارات غير المرغوب في أيٍّ منها، بالنِّسبة ل«حزب العدالة والتَّنمية»، توقَّعت كثير من القراءات أن يقود أوغلو، الذي اعتُّبر الخاسر الأوَّل، عمليَّة تخليص سياسات حزبه من هيمنة أردوغان، وسيطرته، وميوله الاستبداديَّة التي تسبَّبت في هذا الفشل الكبير.
سوى أن أوغلو ربَّما كان راغباً، بالطبع، في أن تقع هذه الإصلاحات السِّياسيَّة بموافقة ومشاركة أردوغان نفسه، عن طِيب خاطر، لولا أن ما ظهر من سلوك الأخير المكابر لا يشي بأدنى رغبة في مجرَّد الإقرار بالكارثة، دَعْ إجراء الإصلاحات المطلوبة.
بل لقد ذهبت صحيفة الحزب «ستار»، تحت تأثيره المباشر بطبيعة الحال، ووسط دهشة المراقبين، إلى إلقاء اللوم على النَّاخبين، كونهم، على حدِّ تعبيرها، قد «صوَّتوا لعدم الاستقرار!»، الأمر الذي فُسِّر برغبة أردوغان في إشهار سلاح الأزمة الاقتصاديَّة لهدفين: الأوَّل إرغام الأحزاب الثَّلاثة على قبول الانتخابات المبكِّرة، أملاً في أن «يصحِّح» الشَّعب «خطأه»، هذه المرَّة، فيمنح حزب أردوغان الأغلبيَّة المطلقة التي يحتاجها، علماً بأن مقدرات هذه الأحزاب الماليَّة لن تمكِّنها، في الغالب، من تحمُّل كلفة معركة انتخابيَّة جديدة، مقارنة باستناد «العدالة والتَّنمية» إلى مقدرات الدَّولة (!)، أمَّا الهدف الآخر فهو مجابهة الشروط التي قد تطرحها هذه الأحزاب، وتخفيض سقف أيِّ توقُّعات محتملة لديها (العربيَّة سكاي نيوز، 8 يونيو 2015م).
أمَّا إذا أضحت «الحكومة الائتلافيَّة» هي الخيار الرَّاجح، فمن المستبعد أن يقع هذا الائتلاف مع «حزب الشَّعب الجُّمهوري» العلماني، رغم حصوله على 26 في المئة من الأصوات التي تهيئ له 132 مقعداً، وذلك لشراسة خصومته مع «حزب العدالة والتَّنمية». وإذن، فعلى الأخير أن يختار ما بين«حزب الحركة القوميَّة» و«حزب الشُّعوب الديمقراطي». فإن فشل في استمالة الأوَّل بمقاعده ال 82، فسيجد نفسه مضطراً لاستمالة الثَّاني، والذي لا يقل عداءً، كضرب «من نكد الدُّنيا على المرء أن يرى عدوَّاً له ما من صداقته بُدّ»!
ولعلَّ بؤس هذه الخيارات وحده، بالنِّسبة لحزب أردوغان، كاف لتجسيد مدى الورطة التي ألفى نفسه فيها نتيجة للانتخابات الأخيرة، بل التي غفل، طوال السَّنوات التي سبقت هذه الانتخابات، عن أنه ظلَّ ينسج خيوطها بنفسه حول نفسه حتى أفاق على حقيقة خسارته الشعبيَّة الفادحة. وعلى العكس من ذلك دلالة الكسب الكبير ل«حزب الشُّعوب الدِّيموقراطي» بتجاوزه، لأوَّل مرَّة، حاجز ال 10%، من الأصوات، بما أهَّله لدخول البرلمان.
وإذن، فبعد أن كان حزب الأكراد بلا حول انتخابي ولا طول، ها هو ينتزع نصيباً من سلطة البرلمان قابلاً للزِّيادة مستقبلاً، بل ويتأهَّل، الآن، لاحتمال أن يخطب حزب أردوغان ودَّه طالباً أن يقبل مشاركته في حكومة ائتلافيَّة! أما أردوغان نفسه، فبعد أن كان يحلم بتدعيم حكمه برئاسة تضارع الرِّئاسة الأمريكيَّة، ها هو يخسر حتَّى القدر من السُّلطة التي كانت له قبل الانتخابات! وفي الحالين جرى ذلك بقرار الشَّعب التُّركي، وتصويته «العقابي»! و.. ألا ما أكثر العِبَر، وما أقلَّ الاعتبار!
------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 21-6-2015.