تاريخ النشر: الأربعاء 10 يونيو 2015
يطرح تغييرُ ثورات الربيع العربي للنظم العربية الحاكمة التي ظلت تدعم الطرق الصوفية في دولها من أجل استغلالها سياسيًّا عدةَ تساؤلات، من أهمها: ما هي حدود تأثير تغيير تلك النظم فى الخريطة الصوفية العربية، خاصةً أن العدد الأكبر من تلك الطرق المنتشرة في الإقليم ذات أصول واحدة، ونشأة ممتدة؟، وما هي الظواهر الجديدة التي طرأت على هذه الطرق؟، وما هي تحدياتها المستقبلية، في ظل ضعف الدعم الغربي، وتمدد التيارات السلفية "الجهادية"؟.
أولا- الخريطة الصوفية في المنطقة العربية:
يقترب عدد الطرق الصوفية في المنطقة العربية من 280 طريقة صوفية، منها طرق ذات أعداد كبيرة ونفوذ قوي في الحياة العامة، من أهمها: الطريقة التيجانية في السودان، والرفاعية في مصر، والرحمانية في الجزائر، والبرهانية في تونس، والعلاوية في المغرب، والشاذلية في سوريا، والعيساوية في ليبيا، والعلوية والغزالية في اليمن. وتتمركز الطرق الصوفية جغرافيًّا في المنطقة العربية في دول شبه الجزيرة العربية، وفي شمال إفريقيا في كل من مصر، والسودان، وفي دول المغرب العربي في كل من الجزائر، وتونس، والمغرب، وليبيا، وفي شرق إفريقيا في الصومال، وفي غرب إفريقيا في موريتانيا. وتوجد الطرق الصوفية بدرجة محدودة في بعض دول الخليج العربي، التي من أهمها: الكويت، والإمارات، والبحرين، خاصة الطريقتين القادرية والنقشبندية. ولتوضيح التشابه والتشابك في الخريطة الصوفية العربية، يُمكن تقسيمها -وفقًا للنطاق الجغرافي- إلى النحو الآتية:
1- الطرق الصوفية في مصر:
يقترب عددُ الطرق الصوفية في مصر من 76 طريقة، منتشرة في محافظات مصر العليا "الصعيد"، وفي بعض محافظات الدلتا، خاصة في الغربية، والشرقية، والدقهلية. ومن أهم الطرق التي تنتشر في أحياء القاهرة الكبرى: الطريقة العزمية، والطريقة السعدية، والرفاعية، والنقشبندية، والشهاوية، والشبراوية.
2- الطرق الليبية:
يقترب عدد الطرق الصوفية الليبية من 13 طريقة، بعضها منتقل من دول المغرب العربي، واليمن، والبعض الآخر له امتدادات مصرية. وتنتشر الطرق الصوفية الليبية في أكثر من 659 زاوية، تتوزع ما بين شرق ليبيا وغربها، وفي مدينة طرابلس. ويُعد من أشهر الطرق وأكثرها عددًا الطريقتان العيساوية والزروقية.
3- الطرق في دول المغرب العربي:
يقترب عدد الطرق في دولة الجزائر من 30 طريقة، تنتشر فيما يقترب من 9 آلاف زاوية، وتضم 4 ملايين صوفي تقريبًا، من أشهرها: الرحمانية، والسنوسية، والدرقاوية، والطيبية، والتيجانية، والعلاوية، وتوجد هذه الطرق في العاصمة، وفي المناطق القريبة من الحدود المغربية، خاصة مريدي الطريقتين التيجانية والعلوية. أما الطرق الصوفية في دولة المغرب، فيقترب عددها من عدد الطرق الصوفية في الجزائر، وذلك نتيجة التقارب والتشابك بين الطرق الصوفية في الدولتين. وتنتشر الطرق الصوفية المغربية في العاصمة مراكش، وتوجد بكثرة في الريف الشرقي المغربي. ومن أشهر الطرق ذات الامتداد الجغرافي في المغرب: الحنصالية، والعلوية، والقدورية الكركرية، والدرقاوية، والقادرية، والشاذلية، والشعبيون.
4- الطرق السودانية:
يوجد في السودان ما يقترب من 40 طريقة صوفية، يمتد أغلبها في نطاق جغرافي واسع، ولكل طريقة منها مركز ثقل في منطقة جغرافية بعينها، حيث تتمركز الطريقة السمائية في وسط السودان، وفي غرب أم درمان، وتنتشر الطريقة التيجانية في دارفور، وفي شندي، والدامر، والأبيض، وفي الخرطوم، وفي أم درمان. أما الطريقة الختمية، فيوجد مريدوها في شرق السودان، وفي شمالة، والخرطوم بحري. أما الطريقة القادرية، فيوجد أنصارها في سط السودان، وفي منطقة ولاية النيل. أما الطرق الحديثة البرهانية، والدندراوية، والأدارسة، فتوجد في أماكن متفرقة بالقرب من الحدود المصرية.
5- الطرق اليمنية:
أما عددُ الطرق الصوفية في اليمن، فيقترب من 20 طريقة، منها طرق وليدة البيئة اليمنية الداخلية، وهي: الطريقة الجبرتية، والعيدروسية، وأخرى طرق وافدة من مناطق عربية أخرى، من أهمها: القادرية، والشاذلية، والرفاعية، والنقشبندية، والسهروردية. وتوجد هذه الطرق في أغلب المحافظات اليمنية باستثناء الشمال، فهي تحتل الجزء الأكبر من المنطقة الشرقية في محافظة حضرموت، وفي المنطقة الغربية في تهامة، وفي المنطقة الجنوبية في محافظة عدن، ومنتشرة أيضًا في المناطق الوسطى في محافظات إب، وتعز، والبيضاء.
6- الطرق الصوفية في الخليج:
تتسم الطرق الصوفية في منطقة الخليج بالحداثة، وتوجد في مناطق محدودة، خاصة في البحرين، وفي الإمارات، وفي الكويت. ومن أهم هذه الطرق المنتقلة من أماكن عربية أخرى: النقشبندية، والقادرية، والعلوية الحدادية.
ثانيًا- تطورات مفصلية في الحركة الصوفية العربية:
بعد قراءة شكل الخريطة الصوفية، بعد ثورات الربيع العربي، يمكن رصدُ عدة ملامح جديدة للطرق الصوفية العربية جاءت نتيجة تطورات في هياكلها الداخلية، أو في مؤسساتها التي تجاوزت حدود الدولة، والتي نشأت بعد صعود تيارات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في بعض دول الربيع العربي، وهي كالآتى:
1. التشابك وصعوبة الفصل بين مكونات الخريطة الصوفية في الإقليم العربي، حيث إن أكثر من 50% من هذه الطرق المنتشرة في دول المنطقة تربطها أصول ومعتقدات ومشايخ واحدة. وهذا التشابه الكبير في شكل الحركات الصوفية في الدول العربية جعلها تتقارب حتى في مواقفها من الثورات العربية، سواء في مصر، أو في ليبيا، أو في اليمن، أو في تونس، أو في سوريا، حيث التزم أغلبها الصمت في بداية اندلاع الثورات، بل أيد بعضها الأنظمة الحاكمة، في حين اقتصر موقف القليل منها في تأييده للثورات على إصدار بيانات فردية لا تعبر عن موقف واحد لصوفية الدولة. ففي مصر، أصدرت الطريقة العزمية عدة بيانات تأييدًا لثورة 25 يناير. وفي سوريا، أصدرت الطريقتان (الشاذلية والرفاعية) عدة بيانات تأييدًا للثورة الثورية.
2. بطء التحرك تجاه الممارسة الفعلية للسياسة، بعد ثورات الربيع العربي: حيث تشابهت الطرق الصوفية في المنطقة العربية في عدم تأسيس أغلبها أحزابًا سياسية، مثل حركات الإسلام السياسي، واستمرت في ممارسة السياسة من بوابات خلفية. ويرجع ذلك إلى أن جميع الطرق الصوفية العربية كانت تُستخدم سياسيًّا لمصلحة الأنظمة الحاكمة قبل سقوطها.
3. الإقليمية والانتقال خارج حدود الدولة: رغم اختلاف الطرق الصوفية في تربية مريديها بحسب نشأتها، وشيخها، والبيئة الاجتماعية والإقليمية التي تتعايش فيها، فإن هناك طرقًا صوفية استطاعت أن تنتقل من دولها التي نشأت فيها إلى دول عربية أخرى. وقد تحولت معظم الطرق الصوفية أخيرا من طابع الدولة إلى الأقلمة، وأصبح مريدوها ومحبوها ينتشرون في أكثر من دولة عربية. ومن أهم هذه الطرق:
(الطريقة القادرية)، وتنتشر في العراق، ومصر، وشرق إفريقيا، وإريتريا، وكذلك (الطريقة الرفاعية) ويوجد مريدوها في كلٍّ من العراق، ومصر، والسودان. وينتشر أتباع (الطريقة الشاذلية) في كلٍّ من مصر، والمغرب العربي، واليمن، وسوريا، والأردن. بينما يوجد أبناء (الطريقة العروسية) في كلٍّ من تونس وليبيا.
4. عالمية الطرق: فقد استطاعت بعض الطرق الانتقال بأورادها، ومعتقداتها، وسلوكيات مشايخها من بيئاتها التي نشأت وتربت فيها، سواء داخل حدود الدولة الواحدة، أو في عدة دول من الإقليم العربي، إلى مناطق جديدة في دول وقارات تختلف اختلافًا كليًّا في الظروف البيئية، والاجتماعية، والسلوكية، والثقافية عن دول نشأتها لتتعايش بين الجاليات العربية المهاجرة إلى تلك المناطق، ولتتمدد في الأماكن القريبة من مناطق إقامة الجاليات العربية في تلك الدول، لتتحول من مجرد طرق وتيارات إقليمية إلى حركات وجماعات عابرة لحدود الدولة العربية والإقليم.
وأهم الطرق العابرة للإقليم العربي، (الطريقة البرهانية الدسوقية)، حيث انتقل مريدوها من مصر، وليبيا، والجزائر، والمغرب، واليمن، وتونس، وسوريا، والأردن، والسودان إلى دول أوروبية وغربية، وأصبح لتلك الطريقة مريدون وأتباع في السويد، والنرويج، والدنمارك، وألمانيا، وهولندا، ولوكسمبورج، وسويسرا، وإيطاليا، وروسيا، وكندا، والولايات المتحدة. أيضًا، استطاع مشايخ الطريقة المحمدية الفوزوية الكركرية، التي أسسها الشيخ محمد فوزي سنة 1396ه بالمغرب، الانتقال والانتشار بين الجاليات العربية في فرنسا، وإندونيسيا، وإسبانيا. كما استطاع تلاميذ الشيخ محمد بهاء الدين النقشبندي الانتقال بطريقتهم من مصر وسوريا إلى معظم دول قارة آسيا، خصوصًا منطقة آسيا الوسطى.
ثالثًا- تحديات مستقبلية:
يظل السؤال الذي يطرح نفسه بعد حالة تغيير النظم الحاكمة التي شهدتها بعض الدول العربية، بعد ربيع الثورات، هو: ما مستقبل الحركة الصوفية في الإقليم العربي، ومدى قدرة الطرق الصوفية في دول المنطقة على العمل في الميدان السياسي والاجتماعي، بعد تغيير هذه النظم التي ظلت تُساندها وتدعمها ماديًّا من أجل استخدامها سياسيًّا؟، وما مدى احتمالات خروج تلك الطرق خلال الفترة المقبلة من دور التابع إلى دور الفاعل السياسي صاحب الرؤية المنفصلة؟.
وللإجابة على هذه التساؤلات، يمكن أن نحدد عدة عوامل قد ترسم ملامح التيار الصوفي في المنطقة، من أهمها:
1. حدود الدعم المادي والمعنوي المقدم للطرق الصوفية من النظم الحاكمة بعد الثورات العربية، ويحتمل هنا أن ينخفض ذلك الدعم لعدة أسباب، هي كالآتي:
أ- إن أغلب الطرق الصوفية في دول المنطقة العربية لا تندمج في مؤسسات تتبع الدولة، ولا يحكمها قانون مثل القانون الذي ينظم طريقة عمل المجلس الأعلى للطرق الصوفية في مصر. لذا، من المحتمل أن تواجه الطرق الصوفية مأزق الدعم المادي، في ظل الاضطربات المالية التي تشهدها معظم الدول العربية أخيرا.
ب- حجم التمثيل الصوفي في برلمانات ما بعد الثورات، وهنا يلاحظ أن أن التصوف في المنطقة العربية سيواجه مأزقًا شديدًا، إن لم يتحول إلى فاعل سياسي واجتماعي له رؤيته الخاصه فيما يتعلق بأمور البلاد.
ج- مدى قدرة الطرق الصوفية العربية على نقل النموذج الصوفي المصري الذي تمثل في تأسيس بعض الطرق أحزابًا سياسية، تمثل الأذرع السياسية لها مثل حزب التحرير المصري، وحزب نهضة مصر، وحزب النصر الصوفي، والتي أعلنت عن خوض الانتخابات البرلمانية، ومارست العمل السياسي بطريقة مستقلة عن أجهزة الدولة، وتنسيقها مع قوى مدنية. ومن أهم هذه الطرق المصرية التي أسست أحزابًا سياسية لها: الطريقة العزمية، والطريقة الرفاعية، والطريقة الشبراوية.
2. الدعم الغربي للطرق الصوفية في المنطقة العربية؛ حيث تُشكل عودة الدور الذي كانت تلعبه الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض دول الاتحاد الأوروبي في العديد من البلاد العربية- لحسابات منها: محاولة الحد من انتشار التيارات السلفية "الجهادية"، على أساس أن التصوف هو دين شعبي ومسالم بالنسبة للغرب - عاملا مهمًّا في تحديد ملامح خريطة الطرق الصوفية العربية خلال الفترة المقبلة.
3. استمرارية القدرة الصوفية في دول المنطقة على التشابك، والترابط، وتوحيد الأدوار خلال الفترة المقبلة، حيث يُساعد تأسيس تيار صوفي قوي وممتد في جميع دول المنطقة، التي أسقطت النظم التي كانت تدعمها وتمولها، على تشكيل تيار صوفي عربي يتبنى قضاياها في المنطقة، من خلال التنسيق مع من يُدير شئون البلاد بعد الربيع العربي. وقد بدأت تتجدد ملامح هذا التعاون والاندماج أخيرا بين الطرق المصرية والليبية، حيث أدانت الطريقة العزمية والسعدية المصرية، في بيان لهما، ما تعرضت له الأضرحة الصوفية في ليبيا، كما حدث تنسيق بينهما لأول مرة في احتفالات المولد النبوي الشريف.