بريطانيا والخروج من الاتحاد الأوروبي
17-5-2015


*
رغم مرور السنوات على عضوية المملكة المتحدة البريطانية في الاتحاد الأوروبي، إلا أن هذه العضوية غير مكتملة، فهي لم تدخل منطقة اليورو لحسابات خاصة بها، وظلت تتعامل مع هذا الاتحاد من منطق الاستعلاء، فكانت تريد أن تكسب من خلال وجودها فيه، من دون أن يفرض عليها الاتحاد قضايا لا تريدها، سواء أكانت قضايا سياسة أم اقتصادية.
 
وإذا كان هناك رضى بريطاني عام في السنوات السابقة على البقاء ضمن المجتمع الأوروبي، لكن اليوم يوجد امتعاض عام، ورغبة كبيرة في الانعزال عن الشركاء في البر الأوروبي، وتجلى ذلك عبر فوز حزب استقلال المملكة المتحدة، المعادي للانخراط في الاتحاد الأوروبي، في انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2014.
 
وكان رئيس الوزراء ديفيد كاميرون قد تعهد بإجراء استفتاء عام على خروج بلاده أو بقائها في الاتحاد الأوروبي في عام 2017.
 
وبعد أن أعيد انتخابه يوم الجمعة الموافق 2015/5/8، أعلن أنه سيعمل من أجل مستقبل أفضل للجميع، ويتوقع أن يكون لهذا الفوز عواقب كبيرة على المملكة المتحدة، حيث إنه أعاد التذكير بما وعد ناخبيه به: «علينا تنظيم الاستفتاء الذي سيقرر مستقبل بريطانيا داخل أوروبا». ويبرر كاميرون وسواه من السياسيين نزعتهم الانعزالية بمسوغات سياسية واقتصادية، لاسيما موضوع الهجرة من دول البر الأوروبي إلى المملكة المتحدة.
 
حيث أظهرت أحدث الأرقام الرسمية أن 228 ألفاً من مواطني الاتحاد الأوروبي، قد دخلوا بريطانيا بحلول يونيو/حزيران من هذا العام (2014)، وهذا العدد يعد أكثر بمرتين من وعد كاميرون بعدد سنوي أقل من 100 ألف بحلول مايو/أيار عام 2015.
 
ورغم وجاهة العامل الاقتصادي في تحديد اتجاهات الرأي في بلد ما، لكن دولة مثل بريطانيا لا تبني سياستها على الاقتصاد وحده، بل هناك عوامل سياسية أخرى هي التي تدفع باتجاه القطيعة مع الاتحاد الأوروبي، وعلى رأس هذه العوامل المنافسة الإلمانية الشرسة على قيادة الاتحاد الأوروبي، خاصة وقد برزت ألمانيا، في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة، كقوة اقتصادية وسياسية تفرض رؤاها وسياستها على دول الاتحاد الأوروبي، كما استطاعت ألمانيا أن تجذب إليها فرنسا، الضعيفة اقتصادياً، والتي تُعد القوى الثانية بعد ألمانيا، كما جذبت إليها دولة أخرى من دول أوروبا الشرقية وهي بولندا، فأصبح محور برلين، باريس، وارسو، هو الأساس السياسي في الاتحاد الأوروبي.
 
وأصبحت السياسة الأوروبية ترسم في ألمانيا، وتتولى فرنسا وبولندا التسويق لها داخل الاتحاد الأوروبي، ولم تكن بريطانيا بعيدة عن التغيرات التي حدثت في أوروبا، ولكنها لم تكن قادرة على منع انجرار فرنسا، بالتحديد، خلف ألمانيا، لأن هذه الأخيرة تسندها مالياً وتدفع عنها غائلة الإفلاس. أما بريطانيا، فهي بحاجة لمن يعطيها أو على أقل تقدير، إلى من لا يطلب منها ثمناً اقتصادياً، ولهذا أصبحت بريطانيا تشعر بالغربة، لأنها كانت في الماضي هي التي تقود التحالفات، وهي التي ترسم السياسات ليس في أوروبا وحدها؛ بل في العالم أجمع.
 
أما اليوم فقد باتت عاجزة عن التأثير حتى في الحليف التاريخي لها وهي فرنسا، ولعل هذا هو السبب الأساسي الذي يدفع بالسياسيين الإنجليز إلى التفكير بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
إن عقدة التفوق التي تحكمت بالعقل الإنجليزي مدة طويلة من الزمان تبدو اليوم عائقاً حقيقياً أمام تلمس الإنجليز لحقائق الواقع.
 
فرغم أن بريطانيا قد خسرت كل مستعمراتها، وخسرت الدول الجديدة التي أسستها وهي، الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، لكنها لاتزال تقف فوق أهرام من الوهم، فلاتزال تعتقد أنها قوة عالمية عظمى، ولكنها تعتمد، في كل شيء، على الولايات المتحدة، فلا تجرؤ على اتخاذ قرار بعيداً عن الإرادة الأمريكية، وربما أكثر ما يؤلم الإنجليز هو أنهم خسروا إمبراطورتيهم في الحرب العالمية الثانية بدافع القضاء على ألمانيا، لكن هذه الأخيرة انبعثت من تحت الرماد، وعادت لتكون القوة الأولى في أوروبا اقتصادياً، وحققت ما كان يحلم به القادة الألمان، وهو إقامة امبراطورية ألمانية تفرض هيمنتها على أوروبا، وإذا كان هتلر قد اتبع الأسلوب العسكري لتحقيق حلمه، فإن قادة ألمانيا الحديثة يستخدمون الذكاء في تسخير مواردهم لخدمة أهدافهم الاستراتيجية الكبرى، وعلى رأسها السيطرة على أوروبا وهو ما تحقق اليوم.
 
ضاربة المثل في كيفية انتصار العقل على القوة، وعجز القوة العسكرية وفشلها، أمام غول الاقتصاد، وسحر المال.
 
---------------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الأحد، 17/5/2015.

رابط دائم: