في وقت تتجه فيه الأنظار إلى جبال القلمون السورية المتاخمة للحدود اللبنانية حيث تدور معارض طاحنة بين المعارضين المسلحين وقوات حزب الله مدعومة من الجيش السوري، في هذا الوقت تنشط مساع سياسية متعددة بعضها يدور في دائرة الضوء وبعضها الآخر وراء الكواليس للتعامل مع الأزمة السورية المستفحلة.
ويسترعي الانتباه أن هذه المساعي تنطلق من أكثر من عاصمة ومدينة. وهذه الظاهرة هي الأولى من نوعها منذ نشوب الأزمة قبل خمسين شهراً.
فثمة مشاورات في جنيف يرعاها المبعوث الأممي دي ميستورا، وتشمل ما يزيد على أربعين مجموعة سورية من الموالاة والمعارضة إضافة إلى منظمات اجتماعية وممثلين لقوى المعارضة المسلحة، حتى غن ميستورا لم يمانع من مشاركة من يعتبروا قريبين من (داعش) و«جبهة النصرة» الإرهابيتين في هذه المشاورات. ولم يقاطع أحد هذه المشاورات التي تقودها الأمم المتحدة، والتي يراد لها أن تستغرق بضعة أسابيع والتي يريد المبعوث الأممي استكشاف رؤية عامة تتيح وضع حل تستأنف من خلاله الاجتماعات السابقة التي عرفت بجنف1 وجنيف2 وانتهت إلى الفشل، وأن يتبنى مجلس الأمن مثل هذا الحل.
إلى ذلك فإن موسكو لم تتخل عن مساعيها الخاصة باستئناف مفاوضات بين النظام وأطراف من المعارضة وذلك بعد جولتين استضافتهما، لم تسفرا عن شيء مع مقاطعة الفصيل السياسي الرئيسي لها وهو الائتلاف إضافة إلى ممثلي المعارضة المسلحة. وموسكو حاضرة على كل حال في مباحثات جنيف الحالية وكذلك إيران حليفة موسكو ودمشق، التي تشارك لأول مرة في مباحثات من هذا النوع. وحجة موسكو في التمسك باستضافة المفاوضات أنها تمتعت بغطاء من الأمم المتحدة وكذلك الولايات المتحدة في «رعاية» هذه المفاوضات.
القاهرة بدورها سبق لها أن استضافت لقاء خاصا لقوى من المعارضة السورية من داخل سوريا وخارجها. وقد شارك الائتلاف، وهيئة التنسيق وهذه أبرز قوى المعارضة في الداخل. وقد شددت القاهرة على لسان وزير الخارجية سامح شكري على ان هذه اللقاءات تجمع بين من يؤمنون ب «الحل السياسي للأزمة». وقد لوحظ أن القاهرة تحفظت على مشاركة بعض شخصيات المعارضة التي تنتمي للإخوان المسلمين. وما يسترعي الانتباه أن القاهرة تحرص على عدم إظهار رؤيتها الخاصة للحل، أو تبيان الهدف السياسي «النهائي» من استضافة هذه اللقاءات. وقد أسفرت اللقاءات بين ما أسفرت عنه عن تقارب بين الائتلاف وهيئة التنسيق، غير أن السؤال يبقى: اين يتم الذهاب بهذا التقارب، وكيف سيتم توظيفه واستثماره سياسياً؟. وما زالت القاهرة كما يرشح عن دوائرها الدبلوماسية تفتح الأبواب أمام المزيد من هذه اللقاءات، علماً بأن هناك تقارباً ملحوظاً بين القاهرة وموسكو في مجال السعي لاستكشاف حلول سياسية.
إلى جانب جنيف (الأمانة العامة للأمم المتحدة) وموسكو والقاهرة، فإن أنباء عديدة تواترت خلال الأسبوعين الماضيين حول استعداد الرياض لاستضافة لقاء لقوى المعارضة السورية. هذه الأنباء التي أكدتها مصادر عديدة في الرياض وفي أوساط المعارضة، ترتدي أهمية خاصة في الظروف الراهنة. فالإعلان عن التحضير لهذا اللقاء جرى في مناخ سياسي جديد ساد المنطقة مع انطلاق «عاصفة الحزم» ثم عملية إعادة الأمل. كما أن هذه الأنباء تزامنت مع بعض التقدم الذي حققته المعارضة المسلحة على الأرض في شمال البلاد وجنوبها وليس بعيداً عن العاصمة دمشق، وهو ما اعترف به النظام نفسه. وعليه فإنه من المتوقع مشاركة قوى تمثل المعارضة المسلحة (الجيش الحر وكتائب إسلامية في مقدمها جيش الفتح، وبدون مشاركة النصرة).
لقاء الرياض إذا ما تم عقده خلال وقت قريب كما هو منتظر، سيكون اللقاء الأكثر مواكبة للتطورات الجارية على الأرض بما فيها معارك القلمون الجارية حالياً. وسيكون الهدف منها على الأغلب توحيد أنشطة المعارضة السياسية والمسلحة، وجعلها تندرج في رؤية واحدة لمستقبل سوريا، رؤية ليست ذات سقف سياسي منخفض.
من جنيف إلى موسكو إلى القاهرة فالرياض، فإن نظام دمشق هو المرشح للخسارة في الحصيلة. خسارة يصنعها بيديه قبل أن يلحقها الآخرون به. فقد تمسك هذا النظام منذ بداية الأزمة حتى الآن بخيار صفري لم يتزحزح عنه قيد أنملة، وقد اقترن هذا الخيار بممارسة عسكرية لا قيد عليها ولا ضابط، خيار يقوم على إخضاع المحتجين والمعارضين، ودعوتهم للدخول إلى بيت الطاعة، ورفض مبدأ التكافؤ والمساواة بين الجميع.. بين من يُفترض أنهم يمثلون معاً الشعب بمختلف شرائحه ومكوناته، والوطن بسائر مناطقه. والأمر الأشد غرابة أنه مع الاستنزاف الهائل الذي يتعرض له فإن النظام لا يعرض مقاربات ومقترحات تستحق أن تسمى «وسطية» تمكنّه من الحدّ من خسائره وإنقاذ نفسه.. دعكَ من إنقاذ سورية نفسها بلداً وشعباً!.
ولم يعد سراً أن الانشغال الإقليمي والدولي بالأزمة السورية، والذي تزايد في الأسابيع الأخيرة والذي يتعدى المشاورات والمباحثات ذات الصبغة التفاوضية المشار اليها في هذا المقال، ينكبّ في جانب كبير منه على استكشاف البدائل والخيارات المتاحة أو المبتغاة.
الأمر الواضح أن وتيرة المشاورات والمباحثات سوف تزداد خلال الأسابيع المقبلة، لكن التطورات الميدانية على الأرض لن تكون أقل سرعة وحسماً..
---------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الإثنين، 11/5/2015.