يحاول الرئيس الأميركي باراك أوباما بلورة اتجاه يحمل اسمه في مجال السياسة الخارجية. ويُعد الاتفاق الإطاري الذي تم التوصل إليه مع إيران في مطلع الشهر الجاري هو التطور الأكثر أهمية في هذا الاتجاه، الذي يسميه بعض أنصاره «الانخراط بدلاً من المواجهة». وربما يأمل أوباما أن يحمل هذا الاتجاه اسمه، بعد أن بدأ في تطبيقه في حالتي بورما وكوبا، ومضى به خطوة أبعد عبر الاقتراب من اتفاق نهائي مع إيران قد ينهي مواجهة استمرت 36 عاماً. وإذا أردنا أن ننفذ إلى أهم ما يميز هذا الاتجاه، ونتجاوز مفهوم الانخراط الذي لا يمكن اعتباره جديداً في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية، ربما نجده في تعبير استخدمه أوباما أكثر من مرة بشأن المفاوضات مع إيران، وهو «الصبر الاستراتيجي».
وقد قصد بذلك طمأنة القلقين من الانخراط مع إيران وكوبا، سواء في داخل الولايات المتحدة أو في الشرق الأوسط، إلا أن إمكانات القوة الأميركية تتيح اختبار مدى استعداد بعض الدول «المنبوذة» لتغيير سلوكها إذا حصلت على فرصة لمراجعة سياساتها. وهو يستند في ذلك إلى أن في إمكان الولايات المتحدة أن تعود إلى مواجهة هذه الدول حين يثبت استمرارها في سلوكها المفترض تغييره، أو تحايلها على الاتفاقات التي تُعقد معها. ويتطلب ذلك، وفق منهج أوباما، شيئاً من الصبر في معالجة قضايا استراتيجية تنطوي على معضلات مزمنة باستخدام وسائل جديدة دون قلق من تداعيات سلبية قد تترتب عليها، على أساس أن محاصرة هذه التداعيات يظل ممكناً حين يبلغ الصبر نهايته.
وينطوي اتجاه أوباما هذا، في حالة إيران، على رهانين رئيسيين يمكن استخلاصهما من الخطاب الرسمي لإدارته.
أول هذين الرهانين هو أن منح إيران فرصة للانخراط في المجتمع الدولي وفق قواعده العالمية سيُدَّعم التيارات المعتدلة والإصلاحية في داخلها، وقد يدفعها إلى مركز الصدارة خلال فترة قصيرة. ولا يخلو الافتراض الذي يقوم عليه هذا الرهان من وجاهة. ولكنها وجاهة مستمدة من منطقيته أكثر مما هي مرتبطة بواقعيته. ويعرف دارسو العلاقات الدولية بُعد المسافة بين ما هو منطقي وما يُعد واقعياً فيها.
فما أكثرها الافتراضات المنطقية التي يصعب تحققها في الواقع. وبالنسبة إلى هذا الافتراض تحديداً، ربما لا تكون اللحظة التاريخية الراهنة بكل ملابساتها الإقليمية هي الأكثر ملاءمة لاختبار إمكان تحققه. فهذه لحظة اضطراب إقليمي هائل في الشرق الأوسط. وساهمت عوامل عدة بعضها من صنع الولايات المتحدة في جعل إيران الدولة الأكثر قدرة على استثمار هذا الاضطراب، ولذلك صارت شهيتها مفتوحة للتوسع والتمدد على نحو قد يُدَّعم نفوذ المتشددين والمتطرفين لا الإصلاحيين والمعتدلين بسبب طبيعة النظام السياسي فيها. ففي النظم «الأيديولوجية» التي ترفع شعارات «ثورية»، تزداد مكانة القوى الأكثر تشدداً بمقدار ما يبدو أن الطريق مفتوح لتحقيق هذه الشعارات. وإذا اتجه فريق من المتشددين إلى إبداء مرونة لاستثمار فرصة الانخراط، قد يحدث ذلك بطريقة تكتيكية ولكن بدون تغيير استراتيجي حقيقي.
أما الرهان الثاني فهو أن تمدد إيران الإقليمي على نحو يتجاوز قدراتها الحقيقية سيستنزفها ويُضعفها تدريجياً، الأمر الذي تصب نتائجه في المجرى نفسه الذي يمضي فيه الرهان السابق وهو دعم نفوذ الإصلاحيين الراغبين في وضع حدود لهذا التمدد.
ولكن واقعية المنطق وراء هذا الرهان الثاني تقترن بطبيعة نظام الحكم. فكلما كان هذا النظام رشيداً، ازدادت قدرته على مراجعة سياساته الخاطئة، والعكس. وليس هناك ما يطمئن إلى أن هذا الرهان يعتمد على دراسة موضوعية جادة لحجم الاستنزاف الذي تتعرض له إيران من جراَّء تمددها الإقليمي، ولقدرتها على تعويضه عبر المكاسب التي تنتظرها بموجب رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها. كما لا يبدو أن هذا الرهان يأخذ في الاعتبار أن تمدد إيران الإقليمي يوفر لها موارد، مثلما يفرض عليها نفقات، وخاصة في حالة العراق.
وفي ظل ضعف واقعية رهاني أوباما على تغيير سياسة إيران، يُفترض أن تكون لدى إدارته من الآن «الخطة باء» تحسباً لنفاذ «الصبر الاستراتيجي» الأميركي بأسرع مما يبدو متوقعاً اليوم.
----------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية،الأربعاء، 15/4/2015.
رابط دائم: