في خضمّ الحديث عن مجتمعات العالم العربيّ ومخاضاته العسيرة، يسأل المرء نفسَه عن مصير هؤلاء المسيحيّين من سكّان الأرض المشرقيّة العربيّة الأصيلة. والجميع يعلم أنّ أطوارًا شتّى انتابتهم، فعبثت بهم أحداثٌ مريرةٌ، فإذا بجماعات منهم أصابها الفناء، وبجماعات أخرى ضرب فيها التمزّق والتفرّق. ولولا بعضٌ من مراحم الدهر ومشاعر النبل في الناس، لكشف الزمنُ العربيُّ عن أبشع نوبات جنونه وأباد كلَّ ما بقي لديه من غنًى في التنوّع الإنسانيّ والثقافيّ.
ولا يخفى على أحد أنّ مجتمعات الاستشراق الغربيّ تناولت منذ زمن بعيد أوضاع المسيحيّين في العالم العربيّ وأجرت عليهم الأبحاث وأنشأت لهم المقاربات، ومقاصدُها شاخصةٌ في أغلب الأحيان إلى تعزيز مصالحها المعرفيّة الذاتيّة. أمّا أهل الشرق المسيحيّون، فتنوّعت مقارباتهم لمحنة المسيحيّة المشرقيّة بتنوّع انتماءاتهم الوطنيّة وتباين أوضاعهم الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة. وممّا لا شكّ فيه أنّ مقاربة المسيحيّين اللبنانيّين للمسألة المسيحيّة في المشرق العربيّ تمتاز بخصائص شتّى. غير أنّ أبرز سماتها إنّما هو اختبار شيء من الاستقلال الفكريّ وقدر كبير من الشغف الوجوديّ. وحدهم اللبنانيّون المسيحيّون يستطيعون أن يفكّروا في وجودهم ووجود المسيحيّين في سائر المجتمعات العربيّة من غير أن يسترهبهم سلطانُ الاستبداد السياسيّ، أو تستميلهم إغراءاتُ البلاط الباذخ، أو تستهويهم على غير اقتناع مقولاتُ السماحة الدينيّة التي تنادي بها الأنظومةُ الإسلاميّةُ في صيَغها الأصوليّة الملطَّفة.
ومن بين الدراسات العربيّة الأكاديميّة الرصينة التي تتناول وضع المسيحيّة في الشرق العربيّ الكتابُ الإشكاليّ الذي نشره البروفسّور شارل شرتوني في دار المشرق (هل من مسألة مسيحيّة في المنطقة العربيّة ؟ من السوسيولوجيا التاريخيّة إلى الواقع المعاصر، بيروت، دار المشرق، 2014) والذي يعتمد فيه على المنهج السوسيولوجيّ التاريخيّ الوصفيّ الاستشرافيّ المستند إلى أحدث المفاهيم الاستدلاليّة والمقولات التفسيريّة. والفرضيّة الأساسيّة التي تحكم البحثَ كلَّه تملي على شرتوني القول بأنّ تضعضع المسيحيّة المشرقيّة وضمورها وانحلالها مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بتضافر أربعة من العوامل التاريخيّة الحاسمة. العامل الأوّل هو بلا شكّ الفتح الإسلاميّ. فالإسلام كأنظومة دينيّة سياسيّة لم يستطع، بحسب الكاتب، في الممارسة التاريخيّة الفعليّة أن يسوِّغ تسويغًا فكريًّا شاملاً التعدّديّة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، بل اكتفى بقدر زهيد من تسويغ التعدّديّة الدينيّة في حدود تشريعاتها القرآنيّة والفقهيّة.
أمّا العامل الثاني، فهو انفطار البنية المجتمعيّة العربيّة على ذهنيّة التسلّط القبيليّ الهرميّ البطريركيّ. فالمجتمعات العربيّة تحمل في تراثها بذورًا راسخةً من الانتظام السلطويّ الذي ينسلك فيه الأفراد، طوعًا أو كرهًا، بكونهم أعضاء يلتصق كيانُهم بكيان الجماعة القبيلة. ومن جرّاء هذا الإرث البنيويّ القاهر ينبري العاملُ الثالثُ مكمِّلاً لذهنيّة التسلّط فيخرج بأنظمة سياسيّة عربيّة استبداديّة تنتهك أبسط حقوق الإنسان العربيّ الأساسيّة. وممّا لا شكّ فيه أنّ مثل هذا العامل الثالث يستجلب تواطؤًا مقيتًا بين الأنظمة العربيّة والاستعمار الغربيّ. فيختلط الحابل بالنابل وتلتبس مواضعُ الإثم الذي يرتكبه الغربُ في الشرق ويرتكبه الشرقُ في الشرق.
وأمّا العامل الرابع الذي يستدعيه شرتوني لاستجلاء حقائق الانحلال الكيانيّ في الوجود المسيحيّ في المشرق العربيّ، فهو التأزّم الكيانيّ الكنسيّ والمؤسّساتيّ والوظائفيّ الذي تعانيه الكنائس والجماعات المسيحيّة في المجتمعات العربيّة المعاصرة. فأثقال التاريخ العربيّ قد أرهقت الوعي المسيحيّ الذاتيّ فألجأته إمّا إلى الانعزال والسكنى الطوباويّة المتعجّلة في جوار الملكوت الآتي، وإمّا إلى الانغماس الإيديولوجيّ النفعيّ المربك للأصالة الإنجيليّة الرفيعة، وإمّا إلى الانحراف المسلكيّ والاقتداء بالمثال القبيليّ العربيّ المستبدّ الفاسد. وفي جميع هذه الأحوال أوشكت الكنائسُ المسيحيّة أن تفقد في العالم العربيّ خصوصيّة نكهتها وفرادة رسالتها.
وأكبر الظنّ في هذا الكتاب العلميّ الرصين أنّ المسيحيّين يتنازعهم في مجتمعات الشرق العربيّ الرنوُّ إلى الحقّ المثاليّ ينشدونه في تضاعيف رسالة المسيح، والانغماسُ في الباطل الواقعيّ يكتنفهم اكتنافًا مظلمًا ويرهق وعيهم الشقيّ. وإنّي لأعتقد أنّ كتاب شرتوني ينطوي على مقاربة للإشكاليّة المسيحيّة العربيّة هي الأرحب والأشمل والأصدق إفصاحًا عن مكنونات الوعي المسيحيّ الشقيّ. فالكاتب لا يتورّع عن تسمية الوقائع بأسمائها. فالفتح الإسلاميّ بسط نفوذه بسطًا لا يطيق بجواره أيّ مشاركة، ومثله في ذلك مثل جميع الأنظومات الدينيّة التي تدّعي امتلاك الحقّ الإلهيّ فتنهض للشهادة للحقّ وإعلاء شأنه في الأرض، وقد اقترنت الشهادة للحقّ بنظام دينيّ سياسيّ قاهر للحرّيّات. والمجتمعات العربيّة ما اختبرت حتّى اليوم أيَّ ضرب من ضروب التدبير الديموقراطيّ الصريح لشؤون المعيّة الإنسانيّة المتنوّعة التي تستوطن كياناتها. والكنائس المسيحيّة في أنظوماتها اللاهوتيّة المتباينة لم تُفلح حتّى اليوم في صياغة تصوّر لاهوتيّ جريء يتجاوز انسدادات الواقع العربيّ الثقافيّ والدينيّ والسياسيّ والاجتماعيّ ويأتيها بشهادة مسلكيّة سامية المرتقى.
فلا عجب، والحال هذه، أن تنشأ إشكاليّةٌ مسيحيّةٌ شديدةُ العسر في المجتمعات العربيّة المعاصرة، أصلُها ناشبٌ في تربة التخلّف العربيّ، وعناصرُها مستلّةٌ من اختبارات البؤس التي يكابدها الإنسانُ العربيّ، ومآلاتها مقترنةٌ بمصائر الوعي الإنسانيّ العامّ في العالم العربيّ المضطرب المنتفض. وإذا ما شاء المرء أن يترصّد تطوّر أحوال الوعي المسيحيّ الشقيّ في غضون القرن العشرين المنصرم، اتّضح له أنّ المسيحيّين افتتحوا عصر النهضة وهم يسائلون أنفسهم عن كيفيّات إسهامهم في بناء الحضارة العربيّة الناهضة من الأزمنة الحديثة. وفي إثر الانتكاسات السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة التي ألمّت بمجتمعات العالم العربيّ منذ منتصف القرن العشرين، استفاق المسيحيّون على استفسار وجوديّ غريب الطور واللهجة. فطفقوا يسألون أنفسهم كيف يدافعون عن بقائهم في هذا العالم العربيّ. أمّا التحوّل الاستفساريّ الثالث والأخير الذي اختبره المسيحيّون في انصرام القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين، فإنّه أتى في أغرب صياغة استفهاميّة حيث أخذ المسيحيّون يستفسرون عن أسباب زوالهم، ولكأنّي بهم قد سبقوا فاستشعروا خطر الاضمحلال الكيانيّ الأخير. والمرء المحتضر، في هذه الحالة الكيانيّة القصوى، يحقّ له أن يعرف السبب الذي من أجله كُتب عليه الانكفاء والانحلال والزوال.
في الكتاب الإشكاليّ الذي وضعه شارل شرتوني إجابةٌ علميّةٌ صريحةٌ عن السؤال الثالث والأخير. غير أنّ هذه الإجابة يكلّلها الكاتبُ برجاء الصحوة الحقّة التي يرتقبها من مخاضات «الربيع العربيّ»: «إنّ الخلاصة التي أودّ أن أصل إليها في آخر مطالعتي ينبغي أن تَخرج عن القراءة التحليليّة للواقع باتّجاه استقراء إمكانيّات الولوج إلى أفق إصلاحيّ فعليّ. إنّ الأفق الذي دفع به «الربيعُ العربيّ» يبقى الأفقَ الناظم لأيّ مدّ تغييريّ فعليّ في المنطقة، وبرغم كلّ ما تولّد عنه من تراجعات أصابته في منطلقاته. فمن سياسات النفوذ الإسلاميّة الإمبرياليّة، من سعوديّة وإيرانيّة، إلى خروج الظلاميّة الإسلامويّة إلى الضوء، إلى تفجّر كلّ الديناميّات التفتّتيّة العائدة إلى الكيانات السياسيّة هذه التي لم تُنجز على مدى ثمانية عقود تماسكًا مدنيًّا أو دولاتيًّا، ولو بحدّه الأدنى، إلى التفكّك البنيويّ المديد الذي يصيب البنيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتربويّة والبيئيّة وتردّداتها على المستوى السياسيّ، يبقى الأفقُ الذي أسّس له «الربيعُ العربيّ» ذا مدلول ومنطلقًا لأعمال إصلاحيّة أساسيّة. لأنّه، لأوّل مرّة، نشعر بأنّ هنالك وعيًا فرديًّا ومجتمعيًّا بضرورة العودة النقديّة للذات والتبصّر في الأسباب التي أوصلت هذه المجتمعات والدول إلى ما وصلت إليه من تهافت معمَّم. الإيجابيّة الوحيدة هي في «الوعي الشقيّ» كما يقول هيغل. إنّ المراهنة على «الوعي الشقيّ» هذا هي المدخل من أجل مواجهة المعضلات على تنوّع مستوياتها، والتي بلغت حدًّا من الخطورة التي حوّلتها من مشاكل عينيّة إلى مسائل وجوديّة أساسيّة» (ص 126). لا شكّ في أنّ الصحوة العربيّة الحقّة هي سبيل الخلاص الوحيد للمسيحيّين في العالم العربيّ. بيد أنّ للصحوة أصولاً ودلائل وبيّنات. فلا بأس أن يتفاءل المرء بما انعقد في هذا «الربيع العربيّ» من وعود، ولئن ثبت أنّ الزمن العربيّ، على وجه العموم، غرّارٌ، ضرّارٌ، حائلٌ للنهضة الديموقراطيّة الصحيحة. ولكنّ الضمانات التي يهبها الاستبدادُ العربيّ لا ركون إليها على الإطلاق. أمّا الانتفاض العابر، فلا يبدّل حتمًا في غور الفكر. والإضافات والتحسينات الديموقراطيّة العابرة لا تنهض بالإنسان العربيّ نهضةً كيانيّةً شاملةً. يبقى على المسيحيّين أن يستهلّوا النهضةَ بإصلاح ذاتيّ عميق الأثر. وليس لتقريع المدّ الإسلاميّ وافتضاح الفساد السياسيّ في المجتمعات العربيّة أن يجنّبهم بؤس المصير وهول المهلكة إنْ هم تهاونوا في أمر الإصلاح الذاتيّ وتخاذلوا في نصرة الإنسان العربيّ. والرجاء أنّ نهضة الإسلام الحقّة لا تأتي إلاّ من أهل الإسلام أنفسهم، وأنّ الزمن العربيّ الديموقراطيّ لا ينبثق إلاّ من عمق تبدّل البنى الذهنيّة والعقليّة العربيّة. ولهذا كلّه آجالٌ لا يقوى على تحمّلها الوعيُ المسيحيّ العربيّ المنهك.
----------------------------------
* نقلا عن السفير، الإثنين، 20/4/2015.
رابط دائم: