في وصفه المشهد الانتخابي في لحظاته الأخيرة قال نتنياهو: "إننا نتجرع كأس العذاب" .
لم يكن نتنياهو يعبّر عن معاناة أيام الحملة الانتخابية بما حفلت فقط، بل وعن القلق الذي استحكم بالمتنافسين حتى لحظة إعلان النتيجة .
إذ على غير المعتاد كانت الحملة الانتخابية حادة المواجهة بين المتنافسين غابت خلالها البرامج وحضرت الإتهامات وتفجرت قضايا تغيير وإصلاح النظام الانتخابي، والأهم من هذا إنه على غير الاحتمالات والتوقعات جاءت النتائج، وبين هذا وذاك كانت المفاجآت .
من المؤكد أن المطروح الآن مرتبط بما يقال في "إسرائيل" ما بعد الانتخابات، وهذه المسألة في ضوء النتائج غير محسومة بالنسبة إلى طبيعة الحكومة المقبلة هل ستعود إلى الائتلاف أم ستكون حكومة وحدة وطنية؟ الأولى باتت عودة استئثار ما يوصف باليمين المتطرف ضعيفة، والثانية تواجهها عقبات الانقسام الكبيرة التي لم يعد بالمقدور إخفاؤها على أرضية الالتقاء في شأن تصفية القضية الفلسطينية التي تجمع اليمين واليسار على أساس العدوان والاحتلال والاستيطان والحرب ضد الإنسانية .
غير أن هذا لا يمنع من تسجيل ولو بعض الملاحظات على مجريات هذه العملية وهي كانت حافلة بالمتناقضات ومن ذلك:
أولاً: كشفت الانتخابات أن جوهر عدم الاستقرار السياسي يعود إلى طبيعة النظام الذي أفرغ العملية الانتخابية بتحويلها إلى لعبة إرادات مستمرة لا توفر الاستقرار السياسي بما يعني ذلك إدخال العباد في متاهة الانشغال بالانتخابات، كما لو أنها شغلهم وانشغالهم الوحيد .
ثانياً: للمرة الأولى في تاريخ الكيان الصهيوني يجري الإعلان عن أن أطرافاً دولية تتدخل في شأن الانتخابات "الإسرائيلية"، ولأن هذا جاء من قبل نتنياهو فقد فسر على أن الاتهام موجه للإدارة الأمريكية أولاً ولأطراف أوروبية أخرى .
هذا يطرح قضية العلاقة بين هذه الركيزة الاستعمارية في هذه المنطقة وحلفائها، ما يثير أسئلة عدة .
ثالثاً: المفاجأة كانت في ميلاد التكتل العربي في أراضي ،1948 حيث انسلخ الناخبون العرب من التبعية لأحزاب غير عربية وتخلى الأغلبية عن عدم المشاركة وانخرطوا في العملية وحققوا فوزاً تاريخياً بعد أن حصل التكتل على المرتبة الثالثة من قوام الكتل البرلمانية .
أهمية هذا الإنجاز، إضافة إلى ما يرتبط بحقوق وحياة أبناء هذه المناطق، أنه يعيد الاعتبار لفلسطين العربية وقضايا شعبها في وجه التهويد وحروب تصفية القضية الفلسطينية .
رابعاً: جرت الانتخابات في ظل تفكك ما يسمى اليمين يقابله توحد واصطفاف خصومه، ومع ذلك جاءت النتائج لكلا الطرفين متقاربة، والمفارقة ليست بهذا الاختلاف، بل وبما ترتب على سياسة اليمين بقيادة نتنياهو من تردي الأوضاع الاقتصادية وتفاقم المشكلات الاجتماعية ودخول "إسرائيل" في شبه عزلة دولية، وخلافاتها مع الإدارة الأمريكية، ما يعني أن الأمر توقف على إدارة الحملة الانتخابية من جهة، ومن جهة ثانية أن اليمين يرتبط بالشارع بأيديولوجيته وخطابه، ورمى هذا الأخير بكل إمكاناته لخوض معركة بدت لنتنياهو مصيرية لليكود ولحياته السياسية .
خامساً: أظهرت الانتخابات قدراً كبيراً من المترددين وغير المهتمين في الشأن الانتخابي، والكثير من هؤلاء لا يعوزهم الوعي الانتخابي، ولكنهم يمثلون المعارضة الصامتة للنظام العنصري بجرائمه ضد الإنسانية، وتنمو في هذا الوسط اتجاهات، وإن بصورة بطيئة، ومن غير المستبعد أن تقود حملات الضغوط عليهم من قبل اليمين والجماعات الدينية المتطرفة إلى أن يتحولوا إلى قوة مؤثرة داخل هذا الكيان الذي باتت أزماته متفاقمة ومتداعية في مستوى أركانه .
سادساً: إلى هذا وذاك أظهرت الانتخابات التي جرت الثلاثاء الماضي أن الأحزاب داخل الكيان الصهيوني تعاني جملة أزمات قادت إلى ما بات يوصف ب"الفلتان الحزبي"، وهذا ناجم عن تحول الكثير من هذه الأحزاب إلى اقطاعيات وفي حالة من الجمود الأيديولوجي والتصلب التنظيمي، وهي أوضاع في الإجمال تشكل بيئة نافرة للشباب الذين يصطدمون بواقع لا يتيح لهم ممارسة الدور الذي يعبر عن طاقاتهم وتطلعاتهم .
ويبدو أن هذه الأدوات الحزبية استهلكت واستنزفت وبلغت حد الشيخوخة وهي تمثل حالة مصغرة ل"إسرائيل" التي لم تعد بالنسبة إلى داعمي وجودها وحماية جرائمها تمثل ركيزة استراتيجية، بل عبئاً بمردودات كارثية على مصالح تلك الأطراف، خاصة الولايات المتحدة، سواء أفصحت هذه الإدارة عن ذلك أم لا . فهذه هي الحقيقة .
---------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 22-3-2015.