نجحت الوساطة الجزائرية في اقتياد حكومة مالي وست مجموعات مسلحة إلى توقيع اتفاق ينهي التوتر المزمن في شمال البلاد، وبحسب ما يدور حول هذا التفاهم، فهو يؤسس لمعاهدة سلام شاملة تتم بعد مرحلة لتجريب النوايا وامتحان قدرة مختلف الأطراف على قبول شروط التعايش المشترك .
هذا الاتفاق الموقع بأحرفه الأولى ليس هو الأول الذي يتعلق بشمال مالي، فقد سبقته تفاهمات ومحاولات لتطبيع الأوضاع، ولكنها سقطت تباعاً بفعل عوامل كثيرة أهمها التحولات السياسية والأمنية التي شهدتها منطقة الصحراء الكبرى مؤخراً، وأبرزها الحضور الإرهابي، ثم التدخل الفرنسي لمحاربة الجماعات المتطرفة في إقليم أزواد . ويأتي هذا الاتفاق المبدئي ليكون محاولة جدية لصياغة وضع جديد على أنقاض الحروب والنزاعات في الداخل المالي، أما بالنسبة إلى الجزائر فهو يمثل نصراً دبلوماسياً ومكسباً لتأمين حدودها الجنوبية، كما يشكل لدول المنطقة عموماً تجفيفاً لمنطقة أصبحت بعد الحرب الليبية مصدر عدم استقرار ونقطة جذب للجماعات الإرهابية وأباطرة الجرائم المنظمة بكل أنواعها .
هذا التفاؤل الكبير يجوز في اللحظة الراهنة لحاجة جميع الأطراف إلى هدوء سريع، أما في الواقع فإن صمود الاتفاق لا يكون إلا بعد توقيع اتفاق رسمي يفترض أن يتم في باماكو في موعد لم يتحدد بعد، وحتى إذا حصل ذلك بفعل ضغوط سياسية من الوسطاء كالجزائر وفرنسا والأمم المتحدة، فسيبقى الالتزام بالتنفيذ أمراً خاضعاً لحسابات متناقضة واتجاهات غير متجانسة . فالحكومة المالية المدعومة بقوة من باريس تريد أن تبسط سيطرتها التامة على الشمال والإجهاز على أي محاولة لانفصال بعض أقاليمه، وبالمقابل لا تبدو الجماعات المفاوضة منسجمة مع بعضها، فخمس من تلك الجماعات منشقة عن "الحركة الوطنية لتحرير أزواد"، وانشقاقها دفعها إلى الاقتتال المتبادل ودفع بعضها إلى التحالف مع التنظيمات الإرهابية . وليس هناك أمل في أن تلك الخلافات ستنتهي، بل الأرجح أنها ستتفاقم في المرحلة المقبلة . فهذه الجماعات وإن كانت متفقة في الخطوط العامة من حيث الحصول على ما يشبه سلطة الحكم الذاتي، فهي متضاربة إزاء إدارة ذلك الحكم وأولويات بعضها مختلفة عن البعض الآخر، كما أن مستوى العلاقة بين إقليم أزواد وباماكو وصلاته بالأطراف الخارجية، بما فيها الجزائر وفرنسا، متفاوت ويخضع لمصالح غير ثابتة . وفي ظل هذه الهشاشة فمن السهل أن تثور النزاعات مثل العواصف الرملية المفاجئة، وعندها لن يكون هناك اتفاق ويصبح السلام المنشود مثل سراب الصحراء .
الأزمة الواقعة في شمال مالي ليست منفصلة عن الأزمات الجوالة والظواهر السلبية المنتشرة في الصحراء الكبرى وجنوبها، فهي في عمومها مترابطة ومتناسلة، ولا يمكن حل واحدة وإهمال الأخريات، فبعض الأزمات تظل مثل الخلايا النائمة تنفجر عندما تتوفر لها الأسباب والمحرضات . ومع تراكم الأحداث، فقد بدأت شعوب منطقة الصحراء والساحل الإفريقي تضيق بواقعها، وأصبحت تأمل إنهاء أزماتها، وذلك لن يتم إلا إذا توفرت إرادة إقليمية تعالج تلك الظواهر جملة وتفصيلاً .
-----------------------
* نقلا عن دار الخليج، الإثنين، 3/2/2015.
رابط دائم: