أنهت أنظمة «الزعيم الأوحد» و «القائد الخالد» و «الرئيس الملهم» المفتوحة أمامه أبواب القمة «إلى الأبد»، والتي امتدت دهراً تبدّى وكأنه بلا نهاية، العمل السياسي في الوطن العربي بمشرقه ومغربه جميعاً. صادر «الحزب القائد» الحياة السياسية، ثم سرعان ما جرت تصفية كادراته الأساسية من المفكرين والمجتهدين والمناضلين الجديين ليمكن اختصاره في «الزعيم الملهم».
ولقد خاضت بعض الأحزاب والقوى الحية في المجتمع مقاومة بائسة لفترة، فلما أنهكها الصراع تلقت العرض الكريم من «النظام»: ان يعطيها مقاعد في «البدعة» التي اعتمدها لتجميع مختلف القوى السياسية ذات التاريخ في «جبهة وطنية ـ تقدمية». ثم تكرّم عليها بمقاعد ثانوية في «حكومات الوحدة الوطنية» لصاحبها «السيد الرئيس ـ القائد الملهم ـ باني الدولة الحديثة».
وحدها التنظيمات الإسلامية، وحركة «الإخوان المسلمين» أبرزها، ظلت في موقف المعارض أو المعترض ثم الخصم بل العدو في تصنيفات النظام القائد المفرد، حتى انقلاب الرئيس الراحل أنور السادات على ثورة جمال عبد الناصر، في بداية السبعينيات. وفي غمار التراجعات التي جسدها ذلك الانقلاب الذي أخذ نظام السادات إلى إسرائيل، وجد «النظام» في سياساته الجديدة مساحة لـ «الإخوان المسلمين» الذين دجنوا، في المقاعد الخلفية لمسيرة الصلح والتطبيع مع العدو الإسرائيلي.
وكان بديهياً أن تستنبت سياسات هذه الأنظمة التي دمّرت دولها ومجتمعاتها تنظيمات إسلامية الشعار، سلفية في تشددها على التتلمذ على المفكرين المكفّرين من الدعاة الذين خرجوا بالدين الحنيف من أصوله وعليها.
هكذا وتحت رعاية أنظمة الاستبداد وفي حمايتها تحول العديد من التنظيمات الإسلامية التي اعترضت على «الشراكة النكراء» بين «الإخوان» ـ في موقع دوني ـ وتلك الأنظمة كما جرى في مصر ـ السادات إلى تكفير المجتمع والتطوّع لهدايته جميعاً، وليس من أجل تخليصه من قبضة الحكم الدكتاتوري الخارج على الإسلام، فحسب.
وربما يمكن التأريخ لهذا التحول الحاسم في مسيرة التنظيمات الإسلامية ولجوء دعاتها وقياداتها إلى الاختفاء تحت الأرض ومباشرة عملهم السري، بالاحتلال الأميركي للعراق. وان كانت تجربة «القاعدة» في أفغانستان (أواخر الثمانينيات) قد أمدتهم بالنموذج العملي في الانتقال من «الدعوة» و «التنظيم السري» إلى ميدان الفعل.
يمكن الاستشهاد بالسيرة الذاتية لعدد من قادة «داعش» و «النصرة» لمعرفة مراحل التحول في الفكر والممارسة لديهم. فالأبرز من هؤلاء هم بين متخرجين من السجون سواء في العراق أو في سوريا أو في مصر أو حتى في ليبيا، والتهمة كانت دائماً هي هي: الانتماء إلى «تنظيمات إسلامية متطرفة»، من دون النظر إلى «أصولهم» السياسية المختلفة... فمنهم من كان إسلامي التوجه من البداية، لكن العديد من «القادة» فيهم كانوا في صفوف حزب «البعث» أو «الإخوان».
على سبيل المثال لا الحصر فإن «الخليفة» الذي قدّم نفسه للعالم من على منبر المسجد الجامع في الموصل، أبو بكر البغدادي، هو متخرج من سجن أبو غريب، في بعض ضواحي بغداد، وقد أمضى فيه حوالي ست سنوات، بعد اعتقاله مع دخول جيش الاحتلال الأميركي بغداد، المدينة التي بناها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور على أقرب نقطة في المسافة بين الرافدين، دجلة والفرات، واتخذها عاصمة للخلافة العباسية.
هذا «البغدادي» الذي نصّب نفسه «خليفة» ودان له «الولاة» و «المناصرون» في بعض البلدان العربية، لم يكن قبل السجن من الإسلاميين المتطرفين، بل لعله كان «نقشبندياً» يعمل في حضن نظام صدام حسين. وكثرة من أمثال البغدادي وبينهم بعض «ولاته» الآن، فضلاً عن المقاتلين أو المجاهدين عراقيين وسوريين وتوانسة وجزائريين ومصريين، هم متخرجون من السجون في عواصم عربية.
كان بعضهم قد اعتقل وحوكم بتهمة الانتساب إلى تنظيم سري، أو إلى تنظيم مسلح، وصدرت بحقهم أحكام بالسجن، في حين ان القسم الأكبر منهم كان رهن الاعتقال من دون محاكمة، في وضع معلّق. وكثيراً ما فتح النظام المعني، لا سيما في العراق وسوريا، باب التفاوض معهم ليس فقط لإعلان التوبة ومن ثم إعادة الاعتبار، بل أساساً للعمل معه، بمعنى المساعدة على كشف المخبوء من التنظيمات الإسلامية السرية، أو استدراجها إلى مصالحة مع النظام.
وعبر التصادم بين الأنظمة العربية، لا سيما في كل من بغداد ودمشق، صار توظيف «الإخوان» أساساً، وبعض التشكيلات الإسلامية المتطرفة والتي كانت محدودة الانتشار والتأثير، من الجانبين: العراقي ضد سوريا والسوري ضد العراق، هو النهج المعتمَد في الحرب والحرب المضادة بين النظامين المتحدرين ـ ظاهرياً ـ من حزب «البعث».
أما مع الاحتلال الأميركي للعراق، فقد وجدت الأجهزة الأمنية السورية في منح هؤلاء المتطرفين، وجلّهم من المقاتلين الشرسين الفرصة للجهاد ضد «الاحتلال الكافر»، وهكذا «نتخلص منهم ونقصر أمامهم الطريق إلى الجنة»، على حد ما كان يردّد بعض القادة الأمنيين في دمشق.
ومؤكد أن بعضاً من هؤلاء «المجاهدين» قد تخفف من القتال ضد الاحتلال الأميركي للعراق، وعاد عبر الطريق التي يعرفها جيداً، لكي «يجاهد» ضد النظام في دمشق، وبعدما بات أكثر خبرة بأساليب القتال وبأنواع الأسلحة، خصوصاً وقد عاش في قلب الفوضى الدموية التي عصفت وما تزال تعصف بالعراق والعراقيين في ظل سلطة الفساد والعجز التي أقيمت تحت رعاية الاحتلال حاملة معها كل ما يشجع على الفتنة المذهبية، بين الشيعة والسنة، والفرقة القومية، بين العرب والأكراد... والسلاح مشاع يمكن لكل قادر أن يأخذ منه ما يشاء.
ولقد أخذ منه «الخليفة أبو بكر البغدادي» في غزوته إلى الموصل ما يكفي لتسليح جيش كامل، مدافع ودبابات ومدرعات ومخازن ذخيرة، فضلاً عن بضع مئات من ملايين الدولارات وجدها محفوظة لـ «جهاده» في فرع المصرف المركزي في عاصمة محافظة نينوى وإحدى أقدم المدن في التاريخ الإنساني: الموصل.
لقد كانت سجون النظام في كل من بغداد ودمشق معاهد التدريب والإعداد لآلاف من «المجاهدين». وهكذا، فإنهم عندما باشرت جحافلهم التقدم في اتجاه الموصل العراقية، كانت بعض فرقهم قد احتلت مدينة الرقة السورية، لتشكل قاعدة خلفية لهم.
أما السياسة فقد وفرت لهم عبر غض النظر التركي الفرصة لأن يتمدّدوا في المساحة الشاسعة الفاصلة بين نهري دجلة والفرات، متقدمين بالنار ليدمروا آخر ما تبقى من متردّم الخلافتين الأموية والعباسية. وأما الفضاء فقد صار مفتوحاً أمام الطيران الأميركي، بل الغربي عموماً، ليعيد احتلال سماء «الخلافة» المبتَدَعة حديثاً، والتي تعتمد إحراق البشر وسبي النساء ومصادرة ثروات الأرض.
هكذا أوصلت سياسة أسلمة الناس (مجدداً) بالأمر! وفي ظل خناجر القتل أمام عدسات التصوير، وبإخراج عصري متميّز، إلى أمركة الفضاء، بداية، تمهيداً للمطالبة بعودة الاستعمار (أهل الكفر) مجدداً إلى أرض الإيمان.
وعلى امتداد الجبهات التي فتحتها جيوش «داعش» بالنار في مشارق الأرض ومغاربها (حتى لا ننسى ليبيا)، فإن هذا «التنظيم الجهادي» من مواليد القرن الحادي والعشرين، قد أغفل جبهة واحدة أو أنه وقف عند «حدودها» مرسلاً إشارات ودّ وصداقة، أو أقله عدم اعتداء، هي الجبهة مع العدو الإسرائيلي في الجولان السوري.
وفي منطق تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» فإن ايطاليا أولى بأن تكون الهدف التالي لغزواته من تحرير فلسطين بالقدس فيها وهي أولى القبلتين وثالث الحرمين، وهكذا فإنه يجهز جيوشه لعبور البحر الأبيض المتوسط، ممهداً بالمذبحة التي ارتكبها ـ وفاخر بأن يعمّم صورها على الدنيا ـ بحق مجموعة من العمال المصريين الفقراء الذين جاؤوا لكي يبيعوا عرق جباههم بما يوفر الخبز لعيالهم. ولقد اختار «الجهاديون» البررة أن يكون هؤلاء العمال من الأقباط، تدليلاً على عميق التزامهم بالشريعة السمحاء، تماماً كما فعلوا مع فقراء الإيزيديين والشبك في شمال العراق.
المهم أن تلك الدول العربية جميعاً قد دالت أو انها في طريق الاندثار تقسيماً أو تشطيراً بينما يعود الاستعمار (الجديد) بطلب من حكامها الذين لم يحفظوا الأوطان ودولهم فيها، ولا الشعوب ورعاياهم منها، وان العرب يغوصون في بطن التاريخ مجدداً بحثاً عن هويتهم وموقعهم من الدنيا!
------------------------------------
* نقلا عن السفير، الأربعاء، 25/2/2015