فرصة الإصلاح التاريخية في الجزائر
24-2-2015

مسعود أحمد
* مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بصندوق النقد الدولي
عقب الانهيار المفاجئ لأسعار النفط على مدار الأشهر الستة الماضية، تواجه الجزائر أكبر تحدٍّ اقتصادي منذ التسعينات، إبان الحرب الأهلية الطاحنة. وستكون كيفية مواجهة الجزائر لهذه التطورات في الشهور المقبلة موضع متابعة دقيقة من البلدان الأخرى التي تواجه تحديات مشابهة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وقد عُدْت لتوي من زيارة إلى الجزائر شعرت فيها بالتفاؤل إزاء ما سمعت.
 
فعلى عكس كثير من البلدان المجاورة، لم تمر الجزائر بربيع عربي، رغم توافر مقوماته الأساسية، ولا سيما ارتفاع البطالة بين الشباب. ولما كانت الجزائر من كبار البلدان المصدرة للنفط، فقد حرصت على تكوين مدخرات حين ارتفعت أسعار النفط بمقدار 3 أضعاف في السنوات السابقة على الأزمة المالية العالمية. وفي أعقاب الأزمة، ووسط الانتفاضات الشعبية في المنطقة، سحبت الحكومة قدرا وفيرا من المدخرات لزيادة الإنفاق على أجور القطاع العام، والإسكان، والدعم، وغيرها من البرامج التي تهدف إلى الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي.
 
ورغم ما يقال عن نجاح برنامج الحكومة الاقتصادي، فإن ما ترتب عليه من ضغوط على النظام بدأ يظهر على السطح حتى قبل هبوط أسعار النفط؛ فقد بدأت فوائض الحساب الجاري والمالية العامة تتحول إلى عجز مزمن، حتى مع وصول أسعار النفط إلى مستوياتها الجديدة المرتفعة. وفي الوقت نفسه، كان الاقتصاد ينمو ببطء شديد يتعذر معه إحداث خفض كبير في معدل البطالة، ثم أخذ إنتاج النفط في التراجع، وكان وجود الدعم يقود إلى الإفراط في استهلاك الطاقة، مما يخفض حجم النفط المتاح للتصدير. وحين بدأت أسعار النفط تسجل هبوطا حادا، اشتدت مواطن الضعف الاقتصادية المذكورة، وأصبحت الحاجة إلى التغيير أكثر إلحاحا.
 
وأثناء زيارتي للجزائر، استشعرت أن كبار صناع السياسات والمحللين الاقتصاديين على حد سواء يدركون ضرورة تغيير نموذج النمو الحالي في الجزائر. وقد ظل من أهداف الحكومة لوقت طويل أن تعيد توجيه الاقتصاد بعيدا عن النفط والإنفاق العام والاتجاه إلى نموذج أكثر تنوعا وديناميكية يأخذ في الاعتبار ما تتمتع به الجزائر من إمكانات هائلة. وربما كان واقع انخفاض أسعار النفط هو اللحظة المناسبة لتعجيل هذه الجهود.
 
وسيتعين بدء التغيير بضبط أوضاع المالية العامة؛ فعلى غرار البلدان الأخرى في المنطقة، سيكون على الجزائر كبح إنفاقها الحالي حتى تتمكن من ضبط حساباتها تمشيا مع أسعار النفط المنخفضة الجديدة، والحفاظ على الثروة للأجيال القادمة. وقد تضاعف الإنفاق على أجور القطاع العام خلال السنوات الخمس الماضية ليصل إلى 20 مليار دولار تقريبا. وتشير نماذج المحاكاة التي أجراها خبراء صندوق النقد الدولي إلى أن استعادة أوضاع المالية العامة القابلة للاستمرار ستتطلب تخفيض معدل نمو الإنفاق بمقدار النصف على مدار السنوات الخمس المقبلة. وبالإضافة إلى ذلك، سيتطلب ضبط أوضاع المالية العامة تعبئة مزيد من الإيرادات، ولا سيما من مصادر لا تعتمد على صادرات النفط المتقلبة.
 
لكن الضبط المالي ما هو إلا نصف الحل؛ فهو لا يكفي بمفرده لخلق فرص العمل اللازمة في بلد يعاني ربع سكانه الشباب من البطالة. وأثناء مناقشاتنا مع السلطات الجزائرية، تناولنا الحاجة الماسة للمضي على نحو متزامن في تنفيذ الإصلاحات بغية تنشيط القطاع الخاص وتوليد مصادر جديدة للنمو. ويعني هذا تحسين مناخ الأعمال، وفتح الاقتصاد أمام مزيد من التجارة والاستثمار، وخفض مواطن الجمود في سوق العمل.
 
ويشعر المجتمع الجزائري دائما بالفخر المستحق إزاء نموذجه الاجتماعي الذي يرعى الشرائح السكانية الضعيفة. ومع شروع الجزائر في هذه الإصلاحات، يجب أن تتأكد من استمرار هذه الرعاية. وسيكون ذلك مهما في مجالات مثل إلغاء الدعم المعمم على الطاقة وغيرها من المنتجات، وهو دعم مكلف يعود بالنفع الأكبر على الأثرياء، وإحلال التحويلات المباشرة الأكثر استهدافا لمحدودي الدخل بدلا منه. ويمثل هذا مجالا من مجالات الإصلاح المعروفة بصعوبتها وحساسيتها، ولكن بلدانا أخرى في المنطقة بدأت إصلاح الدعم بالفعل، وهو ما يمكن أن يتم في الجزائر أيضا. وأخيرا، سيجني الاقتصاد الجزائري مكاسب هائلة من تحسين الحوكمة الاقتصادية؛ فطبقا لتقرير التنافسية العالمية الذي يصدره المنتدى الاقتصادي العالمي، ترى مؤسسات الأعمال أن الفساد والبيروقراطية الحكومية هي أكبر القيود التي تواجه نشاطها. ولحشد التأييد لبرنامج الحكومة الإصلاحي، ينبغي أن تقنع المواطنين بقدرتها على العمل بمزيد من الفعالية، وهو ما يتطلب جهدا كبيرا للتخلص من الفساد والروتين البيروقراطي والاضطلاع بدور تيسيري لمبادرات القطاع الخاص.
 
وأثناء مناقشاتي مع صناع السياسة الجزائريين، لم أجد لديهم أي شك في أن الطريق القادم لن يكون سهلا. ولكن علينا أن نتذكر أن الجزائر في وضع تحسد عليه من بعض الأوجه؛ فحين انهارت أسعار النفط في الثمانينات، مرت الجزائر بظروف اقتصادية شاقة، وأزمات سياسية متوالية، وفي النهاية حرب أهلية. واليوم، بفضل الموارد المالية الكبيرة المتوافرة، تستطيع الجزائر تنفيذ الإصلاحات بالتدريج، ولكنها لا تستطيع ترك هذه اللحظة المواتية تمر دون العمل على الاستفادة منها.
 
------------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الإثنين، 23/2/2015.

رابط دائم: