توالت المؤشرات من البيت الأبيض منذ العام الماضي، عن توجهات متغيرة في الاستراتيجية الأمريكية للسياسة الخارجية، في منطقة الشرق الأوسط . وإذا كانت بدايات الإعلان عنها، قد جاءت بطريقة نظرية، إلا أن ما جرى على أرض الواقع، أوضح أن ذلك كان تمهيداً لإجراءات تنفيذية .
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2013 أعلنت سوزان رايس مستشارة الأمن القومي للرئيس أوباما، أن الرئيس الأمريكي، سيتبع في ولايته الثانية، استراتيجية متواضعة في الشرق الأوسط، وأنه لا يريد أن تبتلع أحداث هذه المنطقة، أجندته للسياسة الخارجية .
وسبق ذلك، ما كان أوباما قد أوضحه من إدراكه للقواعد الجديدة، للتعامل مع عالم يتغير من حوله . وأن الولايات المتحدة، قد دخلت معها قوى أخرى في تنافس دولي في المجالات الاستراتيجية والاقتصادية . وانعكس ذلك في أول خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ،2009 عقب توليه الرئاسة، وقوله إن الولايات المتحدة لم تعد تستطيع أن تتصدى وحدها للتحديات لأمنها القومي، أو الانفراد بحل المشاكل والأزمات الإقليمية، وأنها تحتاج إلى شركاء يتعاونون معها . ثم كرر هذا المعنى في أكثر من مناسبة، بحيث إن أحد مراكز البحوث السياسية وهو مركز التقدم الأمريكي (Cap)، المعروف بأنه مقرب من أوباما، وصف هذه العبارات، بأنها تحديداً، تعبر عن مبدأ أوباما للسياسة الخارجية .
وفي الفترة الأخيرة، وبالتحديد في منتصف ،2013 كتب دنيس روس الذي كان لفترة، ضمن مستشاري أوباما للشرق الأوسط، مقالاً كان أشبه برسالة موجهة إلى أوباما، نصحه فيها بأن يراعى في سياسته تجاه الشرق الأوسط، أن هناك فجوة تفصل بين هدفه للمحافظة على التأثير والنفوذ في المنطقة، وقدرة أمريكا الآن على أن تفعل ذلك .
والحقيقة أن تراجع مسؤوليات الولايات المتحدة، عن دورها تجاه أزمات ومشاكل المنطقة، هو الامتداد الطبيعي، لتطورات دولية وإقليمية، بدأت مع نهاية الحرب الباردة عام ،1989 وتفكك الاتحاد السوفييتي عام ،1991 حيث كان الأمن الإقليمي، يعد جزءاً من أولويات القوى الكبرى، في إطار الصراع الأمريكي السوفييتي، وكان كل منهما يعمل على توسيع نفوذه في الشرق الأوسط، والسعي في الوقت نفسه للحد من نفوذ القوى الأخرى في المنطقة .
منذ هذا التاريخ، أصبح الغرب يعرف ما أطلقوا عليه انتهاء مفعول الأمن الجماعي للغرب كله، ليحل محله مفهوم الأمن المجزأ، الذي تتحمل فيه الأطراف الإقليمية، جانباً من المسؤولية عن الأمن الإقليمي . وطوال الفترة الماضية، منذ نهاية الصراع العالمي بين الكتلتين الغربية والشرقية، تتابعت التطورات في السياسات الخارجية للقوى الكبرى، لكنها ظلت تعبر عن استجابة للأحداث الطارئة، ولا تمثل شكلاً مستقراً لقواعد نظام دولي جديد . وإن كانت الولايات المتحدة، قد تمتعت لبعض الوقت بوضع القوة العظمى الوحيدة . لكن لم يقدر لهذا الوضع أن يستمر، أمام صعود اقتصادي قوي، لدول في آسيا وأمريكا اللاتينية وللقفزات الاقتصادية الهائلة في الصين، والتي أعطت مؤشرات قوية عن تحولات أساسية في النظام الدولي، تنبئ بأن العالم مقبل على تعددية القوى الدولية، وهو ما اعترفت به مؤسسات سياسية كبرى في أمريكا وأوروبا، وتحدث عن ذلك هنري كيسنجر بأنه يتوقع أن تكون الولايات المتحدة، في النظام الدولي القادم، واحدة ضمن مجموعة قوى متساوية .
وقد صاحبت تراجع الدور الأمريكي، ظاهرتان خطيرتان: الأولى ظهرت فى تصاعد طموحات قوى إقليمية للتمدد خارج حدودها، وخلق نفوذ لها في المجال الحيوى العربي، وهي بالتحديد إيران، وتركيا، و"إسرائيل" . والظاهرة الثانية انتشار منظمات الإرهاب في العالم العربي، وحصولها على دعم بالمال والسلاح، من أصحاب هذه الطموحات . مع تقاعس أمريكي أمام وقف هذا التمدد، تحملاً لمسؤولياتها تجاه دول في المنطقة، تربطها معها علاقات وترتيبات .
في هذا الإطار شهدنا تناقضات في المواقف والسياسات الأمريكية، وكلها ناتجة عن افتقاد الإدارة الأمريكية، لمبدأ قاطع لسياستها في المنطقة . ورغم إدراكها المبكر أن العالم يتغير من حولها، فإنها حاولت إنكار أن الشرق العربي يتغير أيضاً، وظلت ترفض تقبل هذه الحقيقة .
ونظراً لأن مؤشرات التغيير في السياسة الأمريكية، وهي بالضرورة تعبر عن مصالحها، وعما قد يمس هذه المصالح من التحولات الدولية، فإنه يبقى السؤال: ما الذي سيحدث إذا تعرضت دول المنطقة لأحداث تهدد أمنها، ومن دون أن تتدخل القوى الكبرى لردع هذه التهديدات؟
صحيح أن الولايات المتحدة اتخذت إجراءات لمواجهة التهديدات الراهنة للإرهاب الإقليمي ممثلاً في تنظيم "داعش"، إلا أنه كان واضحاً أن هذه الإجراءات تكتنفها، سلسلة من مواقف التردد والتناقض، جعلت سياسة إدارة أوباما، عرضة لانتقادات عديدة في الولايات المتحدة نفسها، شملت تساؤلات عما إذا كان أوباما، يتبنى استراتيجية متكاملة ضد الإرهاب .
وهذا يدعونا للتوقف أمام ما كتبه أنتوني كوردسمان، مسؤول السياسة الخارجية، بمركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في واشنطن بأن موضوع الحرب على الإرهاب، ظل في مختلف المناقشات السياسية فى الولايات المتحدة، محصوراً في تراث أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 . وأن هذه المناقشات تجاهلت حقيقة أن أمريكا لم تكن تخوض حرباً فعلية ضد الإرهاب .
إن هذه التطورات والتحولات، يفترض أن تكون بمثابة جرس تنبيه لدول المنطقة، للمبادرة من جانبها، لإيجاد تجمع عربي قوي، قادر على التصدي للتحديات لأمنها القومي، وأن يتزود هذا التجمع باستراتيجية متكاملة، وأن يمتلك أدوات تنفيذها، في إطار رؤية استراتيجية مشتركة .
وهذا حق للدول الإقليمية لحماية أمنها القومي، أمام تقلص مسؤوليات القوى الكبرى والخارجية، وأن يبقى الشريك الخارجي، عنصراً إضافياً ومكملاً، لدور ومسؤولية دول المنطقة في المقام الأول .
-----------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأربعاء، 18/2/2015.