تنطوى عملية «شارلى إبدو» الإرهابية على جوانب شتى يثير أحدها جدلاً حول حدود الحق فى حرية التعبير حين ينطوى على إساءة ما. ورغم أنه ليس هناك أى نوع من الإساءة أو الأذى اللفظى يبرر القتل أو الاعتداء البدنى، فقد لوحظ أن الكثير ممن كان مفترضاً أن يدينوا مذبحة باريس بوضوح واستقامة، وخاصة من علماء الإسلام فى مصر وغيرها، امتنعوا. ولذلك صدرت الإدانات فى معظمها عن هيئات إسلامية، بينما كان أقلها بأسماء علماء استنكف كثير منهم إدانة جريمة إرهابية بشعة بسبب الإساءة التى سبقتها إلى الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام.
ويعنى ذلك أن لدينا مشكلة جوهرية فى تكويننا الثقافى الاجتماعى العام، وفى إدراكنا لمسألة حرية التعبير، وليس فقط فى فهمنا لما يؤدى إليه اختلاف الثقافات فى العالم من نتائج يصعب تجنبها ولا يجوز تحت أى ظرف التعامل معها بوسائل الإرهاب أو بالصمت تجاه استخدام هذه الوسائل.
فكثيرة هى التعقيدات التى تنطوى عليها مسألة حرية التعبير فيما يتعلق بهوية الآخر، أو هوياته المختلفة سواء المقدس منها أو غيره. ولذلك أثارت هذه المسألة جدلاً فى الفكر الحديث لم يُحسم إلا فى شقه الخاص بتجريم التعبير الذى يُلحق أذى مادياً، كالحض على العنف والإرهاب.
وقد بدأ هذا الجدل بسؤال فلسفى هو: هل تعلو الحقوق الفردية ومنها الحق فى حرية التعبير فوق ما عداها، أم أنها ترتبط بالأهمية الأخلاقية للغايات المرجوة من ممارستها؟
ويتفرع عن هذا السؤال المركزى أسئلة كثيرة، يتعلق اثنان منها بالموضوع الذى نحن بصدده. أولهما عن العلاقة بين الحقوق الفردية.. فهل نحترم الحق فى حرية العقيدة لأنه جزء من منظومة هذه الحقوق فى مجملها أم بسبب محتواه أو مضمونه المحدد؟ أما السؤال الثانى فهو عن سبل التمييز بين التعبير الذى لا يضر الآخر، والتعبير الذى يترتب عليه ضرر ما، وكيفية تحديد ما إذا كان تعبير معين يُعتبر ضاراً من عدمه.
وبينما يوجد اتفاق عام على تجريم أى نوع من التعبير يؤدى إلى أذى مادى، كأن يحض على العنف أو الإرهاب مثلاً، وكذلك على رفض أى تعبير يقود إلى أذى لفظى مباشر لشخص محدد مثل سبه أو قذفه، فهناك خلاف حول التعبير الذى يُلحق أذى لفظياً بهوية هذا الشخص أو فئة اجتماعية ينتمى إليها ولكنه لا يخصه بذاته، فضلاً عن أنه لا يحتوى على أى دعوة إلى عنف أو اعتداء على هذه الفئة أو تلك الهوية.
ويرتبط الخلاف هنا بمسألة مدى استقلال الذات الفردية عما عداها، وما إذا كان هذا الاستقلال يجعلها فى منأى عن الأذى اللفظى الذى قد يترتب على الحط من شأن فئة اجتماعية ينتمى إليها الفرد، أم أن ارتباطه بها (الفرد بفئته الاجتماعية) يجعل التعبير الذى ينال منها مؤذياً له ولكل فرد فيها.
فهناك اتجاهان فى هذا المجال يرى أحدهما أن المساس بهوية أو فئة ما يهدر كرامة كل من ينتمى إليها. أما الاتجاه الثانى فيرى أن هذه الكرامة لا تعود للانتماء إلى هوية أو فئة، بل إلى اختيار الفرد دوره فى الحياة بوصفه ذاتاً مستقلة، وأن احترام هذه الذات سابق على انتماءاتها.
ولذلك تختلف الإجابات عن سؤال مثل: هل نعتبر نشر مقال أو رسم يسىء إلى فئة اجتماعية أو هوية معينة مؤذياً لكل فرد ينتمى إليها فى ذاته، أم أن استقلال الذات الفردية يجعلها بعيدة عن هذا الأذى؟
وتعود خلفية هذا الجدل إلى اختلاف فى تفسير المبدأ الليبرالى الكلاسيكى العام الذى يعتبر الدولة محايدة تجاه مختلف الآراء التى يتبناها المواطنون طالما أنها لا تؤدى إلى عنف مادى. ويرتبط هذا الاختلاف بطبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع.
فكلما تطور المجتمع باتجاه ترسيخ مبدأ احترام الإنسان الفرد وإعلاء شأنه، بغض النظر عن خلفيته الاجتماعية وانتمائه الدينى والعرقى والعائلى، يزداد الميل إلى الفصل بينه وبين الهويات والفئات الاجتماعية التى ينتمى إليها. وكلما ظل المجتمع قائماً على ارتباط الإنسان الفرد بخلفيته الاجتماعية وهويته، يزداد الاتجاه إلى دمجهما، وعندئذ يصبح أى نقد للهوية أو الفئة الاجتماعية مؤذياً للفرد شخصياً، وقد يجد فى ذلك ما يدفعه إلى الرد والتصدى.
غير أنه فى كل الأحوال، يوجد اتفاق عام على أن هذا الرد ينبغى أن يكون سلمياً، وألاَّ ينطوى على عنف تحت أى ظرف، ومهما كان نوع التعبير الذى يدفع الفرد الملتصق بهويته وخلفيته الاجتماعية إلى التصدى له.
ولذلك فإذا أردنا أن نلخص دلالة الحرج الذى شعر به كثيرون فى إدانة مذبحة إرهابية بسبب ما سبقها من إساءة إلى الإسلام، فهى أننا مازلنا فى مرتبة متأخرة على صعيد التطور الاجتماعى-الثقافى، وليس فقط فى مجال حرية التعبير.
-----------------------
نقلا عن المصري اليوم، الأحد، 18/1/20115