أتت لمصر فرصة لوضع أسس لسياسة خارجية جديدة. هذه الفرصة قد لا تأتى مرة أخرى فى وقت قريب أو فى ظروف مناسبة. أسمع من يقول أن الفرصة سنحت بالفعل وراحت. أضاعها المصريون. الرد على هذا القول بسيط، وهو أن الفرصة سنحت، وما تزال سانحة. تأخرنا فى الاستفادة منها فى مجالات عديدة واستفدنا فى حالات قليلة جدا. المؤكد الآن أنه إذا قصَر المسئولون هذه المرة فى الاستفادة منها، أو تركوها تضيع منهم، فلن يكون حكم التاريخ متسامحا، فعواقب الإهمال أو التأخير ستكون وخيمة عليهم وعلى شعب مصر، وهو الأهم، وعلى الإقليم بأسره.
الفرصة سانحة لبدء الاستعداد المنظم والمنتظم لإرساء أسس وقواعد سياسة خارجية جديدة. الفرصة سانحة لأسباب عديدة، أهمها:
أولا: أن الثورة التى انطلقت يوم 25 يناير قبل أربعة أعوام ما تزال ناشبة. صحيح أن هذه الثورة تتعرض لجهود شرسة لإجهاضها وتشويه سمعتها، ولكن الصحيح أيضا، هو أنها قاومت هذه الجهود واستمرت جذورها تمتد عمقا فى وعى الشعب. يطول الحديث فى موضوع الثورة ولكن فى اللحظة الراهنة يكفى القول أن الإنسان المصرى تغير، ولن يهدأ له بال حتى يرى التغيير واقعا جديدا فى حياة مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وما الفشل المتلاحق والتكلفة الباهظة فى محاولات العودة بمصر إلى الوراء إلا بسبب تجاهل مسئولين ومؤسسات لهذه الحقيقة وانكارهم لعمق التغيير الذى حدث للانسان المصرى.
وجود الثورة فى وجدان هذا الإنسان وفى كثير من سلوكياته بدعم أنصار التغيير من الحكام والسياسيين الجدد، ويشجع الابداع فى التفكير ووضع التصورات والسيناريوهات ويضاعف القدرة على الفهم الواعى للتحولات الخارجية. لذلك يحاول خصوم الثورة إنكار وجودها أو التقليل من شأنها أو تشويه سمعتها، فذلك يتجدد لديهم أمل القضاء المبرم على التغيير والأفكار التى تتبناه. هؤلاء الخصوم يسعون للعودة بمصر، سياسات وشعبا، إلى أوضاع ما قبل يناير2011، أى إلى أوضاع الاهتراء الصامت والمتدرج وإلى حال السيطرة الكاملة لتحالف قوى القمع وقوى المال الفاسد. يسعون أيضا لكى تستمر الدبلوماسية المصرية فى الدوران حول نفسها واجترار أفعالها. تكرر اليوم ما فعلته بالأمس، تتظاهر بالحركة وهى لا تتحرك، وترفض التجديد والابتكار ومعززة بروح بيروقراطية معادية للتقدم والحداثة.
ثانيا: الفرصة سانحة لأن البيئة الاقليمية ازدادت تدهورا. تصور آخر حكام مصر قبل 2011 أن الابتعاد عن الإقليم يحمى سلطتهم المطلقة ومصالحهم الفاسدة ويبعد التدخلات الخبيثة. هؤلاء فاجأتهم مصر بأن قادت الدعوة للتغيير بادئة بإزاحة هؤلاء الحكام وخلخلة النظام اٌلإقليمى من أساسه، واستعادت بثورتها القدرة الفائقة على التأثير فيما حولها والتفاعل بقوة مع التحولات الإقليمية فى وقت كانت مصر تخلو من حكومة مستقرة أو نظام قادر.
هذه البيئة الإقليمية المهترئة، بالإضافة إلى الافتقار إلى منظومة سياسة خارجية مصرية قوية ومترابطة، سمحت لقوى التخريب بالنفاذ إلى قلب مصر وضرب أمنها وتبديد قواها. سمحت أيضا بانحسار متسارع لنفوذ جميع القوى التى رشحت نفسها لقيادة الإقليم. النتيجة ساحة إقليمية خاوية ولكن مستعدة للترحيب بنسق فكرى جديد تقدمه مصر لمنع تفاقم التدهور الإقليمى. ها هى الفرصة سانحة لتتقدم مصر إلى الإقليم برؤية شاملة لمستقبله ضمن رؤية أوسع لسياستها الخارجية الجديدة.
ثالثا: الفرصة سانحة أيضا لأن البيئة الدولية فى حال انتقال. بمعنى آخر لا توجد قيود قاسية تتحكم فى حركة مصر الدولية، كالأحلاف الثابتة أو إيديولوجيات القوى العظمى. المجال متاح لكى تفكر مصر بحرية وتضع خياراتها بعيدا عن التأثيرات والخيارات الأيديولوجية التى كانت تفرضها الحرب الباردة، ومرحلة التبعية المطلقة للسياسة الخارجية الأمريكية.
لا أحد ينكر أن الثورة المصرية حررت مصر من قيود خارجية متعددة، وبخاصة القيود الأمريكية. ولا أحد ينكر أيضا أنه رغم ظروف مصر الاقتصادية المرهقة ما زالت تستطيع، لو أنها أرادت، أن تخطط بحكمة أكبر وحرية أوسع لوضع أسس سياسة خارجية مختلفة.
رابعا: الفرصة سانحة لأن السنوات الأربع الماضية كشفت عن وجود نسبة لا بأس بها من شباب الدبلوماسيين، منفتح على رياح التغيير وقادر على التأثير وواع بمجمل وتفاصيل التطورات الإقليمية والدولية المحيطة بمصر. هذا القطاع من الدبلوماسيين المصريين، وأعرف أن له قرينا فى أجهزة مصرية أخرى لها علاقة بالسياسة الخارجية، يمكن أن يكون الدعامة الضرورية لتأصيل وتطوير أفكار مبتكرة لسياسة خارجية مصرية تصلح لعصر جديد وشعب متغير وإقليم متحضر.
خامسا: يصعب إنكار أن فى مصر الآن وفى العالم العربى عموما، وبين المصريين من الشباب المبعوثين للدراسة أو للعمل فى الخارج، عددا غفيرا من الباحثين والاكاديميين الجاهزين فورا للارتقاء بأنفسهم ودراساتهم وحواراتهم وطموحاتهم إلى مستوى عالمى. أعرف عشرات، إن لم يكن مئات، من هؤلاء الشباب معرفة وثيقة. أقرأ ما يكتبون وأسمع ما يفكرون فيه وأناقش معهم فيما يعتقدون، وأظن، بل أنا واثق، أنهم جاهزون ليكونوا جزءا أساسيا من قاعدة قوية تحضر لمؤتمر يضع أسس مبادئ سياسة خارجية مصرية جديدة. أعترف، مع هذا، أننى أتألم مثل مئات من أعضاء نخبة السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وأنا أرى تدهورا مستمرا فى مستوى الحوار حول القضايا الإقليمية الدولية فى الفضائيات المصرية وعلى أعمدة الصحف، ولكنه التدهور الذى مايزال مقصورا على عدد محدود من «هواة» التحليل السياسى أو الظهور على الشاشة.
سادسا: أعرف أن أصدقاء وزملاء يستبعدون إمكان أن يصنع شبابنا وشيوخنا أسس ومبادئ سياسية خارجية جديدة، بينما تتراجع بشدة مكانة مصر فى ساحة القيم العالمية وبخاصة قيم الحريات وحقوق الإنسان. لن نخرج إلى العالم، أو حتى الإقليم، برؤية للسياسة الخارجية المصرية صالحة لعصر جديد تخلو من تأكيد احترام مصر وتبنيها للقيم العالمية. بل وأعتقد شخصيا أنه ما من رؤية مصرية للسياسة الخارجية ستكون قابلة للتصديق، ما لم ينص فى ديباجيتها على مضمون «رسالة مصرية»، رسالة تتعهد الدبلوماسية المصرية بنقلها للعالم الخارجى وبثها على أوسع نطاق، ولتكون فى يوم من الأيام جوهرة قوتنا الناعمة. أظن أنها ستكون واضحة على جدول أعمال هذا المؤتمر «التأسيسي» نية مصر أن تكون لها «رسالة» نابعة من سردية إنسانية وتاريخية فريدة، جذورها فى أسس حضارتها القديمة وفروعها فى التنوع الثقافى الخلاق الذى تميزت به عقود تاريخها الحديث، وقبل أن تهب عليها عواصف اقتلعت الأشجار ومعها عمائر الحضارة والتقدم.
أقول: نستطيع أن نحقق الظروف والأسباب لاجتماع عقول من جميع أجيال المجتمع المصرى وطبقاته وتوجهاته السياسية، لتجتهد فتبدع «عمارة» عصرية جديدة للسياسة الخارجية المصرية. تقوم «العمارة» التى نحلم بها على فكر مستنير ورسالة إنسانية وسياسية تليق بثورة مصر وتاريخها الحديث وهياكل وبنى بشرية وتكنولوجية وفكرية متطورة.
--------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية ، الخميس 15/1/2015.