التحديات الجديدة في العقيدة العسكرية لروسيا
11-1-2015


*
عاد من جديد الصراع الاستراتيجي الكبير بين روسيا ودول الغرب، لكن هذه المرة من دون خلفيته الفكرية المتمثلة في الأيديولوجية الشيوعية . وأسباب تجدد الصراع ترتبط أساساً بشعور الروس بأنهم يملكون مقومات القوة العظمى، وإن كانت روسيا قد خسرت كثيراً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام ،1991 لكنها لاتزال تملك ترسانة هائلة من السلاح النووي، وسواه من الأسلحة الفتاكة الأخرى، ولديها برنامج فضائي متقدم، كما تملك عشرات الآلاف من المصانع العسكرية في صحرائها الثلجية "سيبيريا"، وهي أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، وكل ذلك دفع الروس للمنافسة من جديد على زعامة العالم، وملء الفراغ الذي تركه الاتحاد السوفيتي السابق، وأيضاً، فإن الولايات المتحدة نشطت على مدى السنوات الماضية لاختراق السور الحديدي الذي طوقت روسيا نفسها به، فأدخلت الكثير من دول أوروبا الشرقية في حلف شمال الأطلسي، وسعت لمد هذا الحلف إلى جورجيا وأوكرانيا من أجل تطويق روسيا، وقامت بتوقيع اتفاقية مع بولندا عام 2011؛ لإقامة درع صاروخية فيها ستدخل حيز العمل عام 2018 .
 
وفي مطلع عام 2014 بدأت معركة الغرب للسيطرة على أوكرانيا، وأصبح الصراع ملامساً للحدود الروسية، ونجحت روسيا في استيعاب الصدمة الأولى هناك، فقامت على الفور بضم شبه جزيرة القرم إليها، كما خلقت بؤرة مقاومة كبيرة في منطقة الدونباس في جنوب شرق أوكرانيا، وقد عجز الجيش الأوكراني عن القضاء على تلك المقاومة، وأصبح استقلال تلك المنطقة عن أوكرانيا أمراً واقعاً . وعلى خلفية الأزمة الأوكرانية قامت دول التحالف الغربي بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، وأدرك الروس أن الهدف الأساسي من هذا الحصار الأمريكي هو الوصول إلى قلب روسيا، وتفتيتها إلى دول متعددة . ولذلك بدؤوا الاستعداد للمواجهة الجديدة عبر خطوات متعددة؛ بدأت مع تعديل العقيدة العسكرية لروسيا . ففي 27 ديسمبر/كانون الأول 2014وقع الرئيس فلاديمير بوتين، النسخة المعدلة للعقيدة العسكرية لروسيا، مدشِّناً مرحلة جديدة من العلاقة مع الغرب . إذ نصت الوثيقة الجديدة على اعتبار حلف شمال الأطلسي بين أبرز الأخطار التي تواجهها روسيا، وأكدت حق موسكو في استخدام القوة النووية لأغراض دفاعية، وأُضيف خطر الإرهاب داخلياً إلى التحديات الجديدة، إضافة إلى تأمين مصالح روسيا في القطب الشمالي .
 
واعتبرت النسخة الجديدة للعقيدة العسكرية أنّ احتمال اندلاع حرب واسعة ضد روسيا قد تراجع على الرغم من تصاعد الأخطار العسكرية في بعض المناطق . وتلتزم روسيا في عقيدتها العسكرية، "بتعزيز الدفاعات الصاروخية ضد أي عدو محتمل، وتطوير المكونات القادرة على حمل رؤوس نووية، والتي تضم أنظمة الصواريخ، والغواصات النووية المزوّدة صواريخ باليستية، وقاذفات استراتيجية" .
وكانت العقيدة العسكرية الروسية شهدت تقلبات متعددة خاصة في الفترة التي حكم الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسن، عقب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق . فقد تطلبت المرحلة، آنذاك، الحاجة إلى التفكير في إقرار عقيدة عسكرية؛ لمواكبة ما طرأ من تغيرات في موازين القِوى الإقليمية والدولية، وقد نصت تلك العقيدة العسكرية الصادرة في 1993 على اعتبار أن الأخطار الرئيسية التي تهدد الأمن القومي الروسي تتمثل في "توسع حلف الناتو، والحروب الإقليمية في الفضاء السوفييتي السابق، واندلاع الحركات الانفصالية" .
 
وفي عام 1999 بدأت معركة استعادة روسيا للشيشان، ونجح الجيش الروسي في القضاء على المقاومة الشيشانية، في الوقت الذي أقدمت فيه دول حلف شمال الأطلسي على ضرب يوغسلافيا التي كانت حليفاً قديماً لروسيا، واتضح أن الهدف من وراء تلك الحرب هو تدمير الدولة اليوغسلافية، وتحطيمها بشكل كامل ونهائي . وشعرت روسيا بأنها المستهدف من تلك الحرب بشكل غير مباشر، ولذلك أقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تعديل العقيدة العسكرية الروسية، ففي إبريل/نيسان عام 2000 صدرت العقيدة الجديدة لروسيا، وكانت تسمى "عقيدة استعادة الدولة"، وبدت في جوهرها عقيدة دفاعية في مضمونها البعيد إلى حد كبير عن العقيدة الهجومية، بتركيزها على تعزيز الأمن على الحدود الجنوبية للدولة الروسية، والتأكيد على وصف "الناتو" بأنه العدو الرئيسي لروسيا الاتحادية . وعندما أعيد انتخاب الرئيس بوتين عام 2004 صدرت عقيدة عسكرية جديدة حملت اسم "عقيدة فرض الاحترام"، وأكدت مشروعية تأسيس جيش قوي، ودعم القوات المسلحة بأحدث الأسلحة والتقنيات العصرية في ضوء المتغيرات الجديدة، وتوازن القِوى لمواجهة التحديات الجيوسياسية من جانب الولايات المتحدة وحلف "الناتو" .
 
وعام 2009 تم الإعلان عن عقيدة عسكرية جديدة، اعتبرت حلف شمال الأطلسي تهديداً لروسيا . وقد تم تطبيق تلك العقيدة عملياً في 2011- 2015 وهي عقيدة التوازن الاستراتيجي، ومنذ عام 2009أعادت روسيا النشاط لطلعاتها الجوية في منطقة القطب الشمالي المحاذية لألاسكا، وتضمنت الطلعات قاذفات استراتيجية محملة بقنابل نووية، وترافق ذلك مع عودة نشاط الغواصات الروسية في الأطلسي قبالة الشواطئ الأمريكية، فضلاً عن المناورات العسكرية المشتركة مع فنزويلا، بهدف استعادة التوازن الاستراتيجي مع دول التحالف الغربي . وقد نجحت روسيا في الانطلاق من الدفاع إلى الهجوم، فقامت بتسليح إيران، ما جعلها شوكة في حلق حلف الأطلسي، كما تقاربت مع الصين إلى مستوى التحالف الاستراتيجي، ومدت خيوطها لاصطياد تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي، ووقعت معها عدداً من الاتفاقيات المتعلقة بالطاقة، ووقفت في وجه التدخل الأطلسي في سوريا، وأرست على شواطئ البحر المتوسط معادلة عسكرية جديدة . وأقامت تحالف دول "بريكس" الموجه أساساً ضد نظام القطب الواحد، وهي تعمل ليل نهار على تشتيت القوة الأطلسية، والتعجيل بانهيارها من أجل تحقيق نصر حاسم ونهائي على الغرب .
 
------------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 11/1/2015.

رابط دائم: