كان الإعلان المفاجئ عن تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا في 17 ديسمبر الماضي أبرز أحداث مرحلة النهاية في سنة 2014 التي تودعنا غداً، وقد أخذتُ منذ ذلك الوقت أتأمل في الدلالة الاستراتيجية لهذا الحدث بالنسبة للتفكير الأميركي، وانتهيت إلى افتراض أطرحه هنا يتعلق بما أسميه القصور في هذا التفكير، ذلك أن الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية اكتسبت وضع الدولة العظمى في النظام العالمي، وكانت منذ ذلك الوقت وحتى تفكك الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي إحدى القوتين العظميين، ثم انفردت بعد ذلك بوضع القوة العظمى الوحيدة الجامحة وإن لحقت بقوتها قيود بعد ذلك، وطيلة هذه المرحلة ثمة ما يشير إلى أنها لم تحسن بسبب هذا القصور قيادة العالم، وأنها لم تتمكن دائماً من ثم من تحقيق مصالحها، ناهيك عن الخراب والمظالم التي لحقت بمناطق عديدة في الكرة الأرضية.
والشواهد على ذلك عديدة ويمكننا أن نبدأها بالموقف الأميركي من الثورة الصينية التي نجحت في 1949، ومن المؤكد أن العداء الأميركي لهذه الثورة مفهوم في إطار الحرب الباردة في ذلك الوقت ولكن الولايات المتحدة أمعنت في عداء هذه الثورة ومقاطعتها لمدة تزيد على ربع القرن، وظلت تعتبر جزيرة تايوان التي لم تخضع للحكم الشيوعي الممثل الشرعي للصين حتى اضطرت بحكم الواقع إلى اكتشاف الخلل في تفكيرها الاستراتيجي والاعتراف بالصين «الحقيقية» في 1977. ثم نعبر إلى الدورالأميركي في القضاء على تجربة مصدق في إيران في منتصف القرن الماضي لمجرد أنه تجرأ واتخذ خطوة تأميم النفط، فهل حقق هذا الدور مصلحتها الاستراتيجية وكذلك مصلحة الشعب الإيراني أم أنه كان سبباً في تفاقم التناقض بينه وبين حكم الشاه حتى نجحت الثورة الإيرانية في 1979 التي ناصبت الولايات المتحدة العداء حتى الآن؟ وبعد ذلك يأتي العداء الأميركي للثورة المصرية وتوجهاتها العروبية، الأمر الذي أدى إلى دخول الاتحاد السوفييتي المنطقة من أوسع أبوابها من خلال تصدير السلاح ودعم جهود التنمية لعقدين من الزمان على الأقل، ويتلو ذلك العداء الأميركي للثورة الكوبية التي نجحت في 1959 وحصارها لمدة زادت عن نصف القرن حتى وقع التراجع الأخير.
وفي ستينيات القرن الماضي وسبعينياته بدأت مرحلة جديدة من تداعيات القصور في التفكير الاستراتيجي الأميركي بهزيمة التدخل الأميركي في فيتنام الجنوبية وانتصار الحكم الشيوعي في فيتنام الشمالية المدعومة من الاتحاد السوفييتي والصين في مطلع السبعينيات، وكانت هزيمة عسكرية تقليدية وليست مجرد هزيمة سياسية، وفي نهاية ذلك العقد بدأت الولايات المتحدة تواجه التدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان واستعانت في ذلك بتنظيم «القاعدة» المتطرف الذي ينسب نفسه للإسلام فهزمت الاتحاد السوفييتي ولكنها فتحت الباب على مصراعيه لنمو الإرهاب باسم الدين، وهو خطر ما زالت تواجهه حتى الآن. وفي مطلع القرن الحالي أقدمت على غزو العراق في 2003 استناداً إلى مبررات ثبت زيف أهمها، وبغض النظر عن الخسائر التي لحقت بها مادياً وبشرياً من جراء مقاومة الاحتلال فإن الخسارة الاستراتيجية الحقيقية لها تمثلت في تسليم العراق إلى النفوذ الإيراني. وأخيراً وليس آخراً كان الرهان الأميركي على إعادة صياغة الشرق الأوسط باستخدام ورقة «الإخوان المسلمين»، ووصل ذلك إلى حد الاعتراض على الإطاحة بحكمهم في مصر في يوليو 2013 ومناصبة الحكم الجديد العداء إلى حد فرض العقوبات بدعوى الدفاع عن الديمقراطية، وهو موقف اضطرت إلى التراجع عنه بالتدريج لاحقاً.
لا يعني ما سبق أن سجل الولايات المتحدة كقائد النظام العالمي خالٍ من الإنجازات، بل على العكس لقد حققت في هذ الصدد إنجازات لافتة تحتاج بدورها إلى إمعان نظر وصولاً إلى تقييم موضوعي قدر الإمكان للأداء الأميركي في هذا الصدد والدروس المستفادة بالنسبة لنا.
----------------------------------
نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الثلاثاء، 30/12/2014.
رابط دائم: