فى الثامن عشر من ديسمبر الحالى شهد البرلمان الكينى جلسة عاصفة ناقشت تعديلات قوانين الأمن ومكافحة الإرهاب. هتف نواب المعارضة ضد الحكومة، وضد التعديلات التى لم يتح لهم الوقت لدراستها، والتى يمكن أن تحول كينيا، من وجهة نظرهم، إلى دولة بوليسية وتنتقص من الحريات المدنية التى أقرها دستور 2010. فى الوقت نفسه تظاهر ناشطون خارج مقر البرلمان ضد التعديلات التى تطلق يد الدولة فى محاربة الجماعات المسلحة. فقد منعت النصوص الجديدة النشر فى قضايا الإرهاب وأقرت عقوبة بالغرامة والحبس لمن يقوم بنشر معلومات يمكن أن تكدر السلم العام أو تؤثر على العمليات الأمنية التى تقوم بها الحكومة ضد الجماعات المسلحة. كما سمحت التعديلات بمد فترة الحبس الاحتياطى للمشتبه فى تورطهم فى أحداث عنف.
تأتى هذه التعديلات بعد حوالى أسبوعين من إذاعة قناة الجزيرة الدولية لفيلم وثائقى بعنوان «داخل فرق الموت الكينية» أنتجته وحدة الاستقصاء بالقناة مؤخرا حول تعامل الأجهزة الأمنية فى كينيا مع القيادات الدينية المشتبه فى تورطها فى عمليات إرهابية داخل كينيا وخارجها. عرض الوثائقى شهادات لثلاثة أعضاء فى وحدة سرية لمكافحة الإرهاب تتكون من عناصر من الشرطة والمخابرات نفذوا عمليات تصفية لعشرات من القيادات المسلمة التى تتهمها الشرطة بتجنيد كينيين مسلمين للانضمام إلى حركة الشباب المتطرفة فى الصومال. ووفقا لرواية هؤلاء الأعضاء، الذين أخفى الفيلم هويتهم، فإن اللجوء لهذه الوسائل غير القانونية كان أمرا ضروريا بعد أن فشلت الملاحقة القضائية لهذه القيادات نتيجة لعدم كفاية الأدلة. وقد أثار الفيلم ردود فعل واسعة داخل كينيا التى أنكرت حكومتها ما جاء فيه من اتهامات.
تعد كينيا من أكثر الدول المستهدفة بالعمليات الإرهابية فى شرق أفريقيا. ففى عام 1998 تعرضت السفارة الأمريكية فى العاصمة «نيروبى» لتفجير أودى بحياة أكثر من مائتى شخص. وفى عام 2002 تم استهداف بعض المنشآت المملوكة لإسرائيليين فى مدينة مومباسا الساحلية. وقد تزايدت وتيرة هذه الاعتداءات بعد تدخل القوات الكينية فى الصومال عام 2011 فى إطار قوات الاتحاد الأفريقى لمحاربة تنظيم الشباب. وكان آخر هذه الاعتداءات الهجوم على حافلة فى شمال كينيا أواخر الشهر الماضى وقتل ما يزيد على عشرين راكبا.
إذا كان ذلك هو الواقع الذى تبرر به بعض العناصر الأمنية فى الحكومة الكينية، وغيرها من الحكومات الأفريقية التى تواجه تحديات مماثلة بإجراءات مشابهة، عمليات التصفية والقتل خارج إطار القانون، وإذا كانت تعديلات قوانين الأمن الأخيرة فى كينيا قد جرمت الكشف عن هذه العمليات، فإن ذلك يشير فى الواقع إلى مجموعة من الحقائق المؤلمة؛ أولى هذه الحقائق أنه فى مقابل إرهاب الجماعات المسلحة تمارس الدولة أحيانا إرهابا مماثلا تعطى فيه أجهزتها الأمنية الحق فى استخدام أية وسائل للتعامل مع العناصر المشتبه فى تورطها فى، أو تحريضها على، أعمال إرهابية. وقد رصد الوثائقى بناء على عدد من الشهادات، من بينها شهادة «فيليب ألستون» المحقق الدولى الذى كلفته الأمم المتحدة بالتحقيق فى قضايا القتل خارج إطار القانون التى قامت بها الشرطة الكينية فى أعقاب الانتخابات الرئاسية عام 2007، أن الشرطة غالبا ما تلجأ إلى استخدام بعض الحيل مثل وضع بعض الأسلحة بجانب المشتبه فيهم الذين يتم تصفيتهم، للإيحاء بأن هذه التصفية قد تمت فى إطار تبادل لإطلاق النار بين الطرفين. وقد أكد «ألستون» وغيره من الحقوقيين المحليين والدوليين المهتمين بالقضية أن الأجهزة التى تقوم بعملية التصفية تتمتع بحصانة كاملة ولا تخضع للمساءلة.
يظن المنفذون لهذه العمليات، كما روى أحدهم فى الوثائقى متباهيا، أنه يحمى البلاد من خطر كبير. ولكنهم يتجاهلون أن مشاهد الدم التى يخلفونها وراءهم تؤجج الصراع الدائر بين الدولة والجماعات المسلحة وتجذر رواية هذه الجماعات عن الدولة «الكافرة» التى لا تمتثل لقانون وضعى، ناهيك عن الشرع الإلهى، وتجند المزيد من الغاضبين فى كتائب الانتقام من هذه الدولة. ومع اتساع دائرة الاشتباه تتسع دائرة المؤمنين برواية هذه الجماعات والمستعدين لبذل حياتهم، المهددة على أية حال، دفاعا عنها. ويذكر المتابعون لجماعة «بوكو حرام» النيجيرية أن أحد أسباب زيادة وتيرة ودموية عمليات الجماعة كان مقتل زعيمها «محمد يوسف» عام 2009 بعد اعتقاله من قوات الشرطة. وفى الحالة الكينية، فإن استهداف المسلمين وقياداتهم تزيد من عزلة الكينيين المسلمين من أصل صومالى، والذين تشعرهم الدولة بأنهم ليسوا سوى مشتبه فيهم مشكوك فى إنتمائهم لها.
الحقيقة الثانية، أن الممارسات الدولية غير القانونية تجاه المشتبه فيهم، والتى تقدم الولايات المتحدة نموذجا لها بما كشف عنه التقرير الأخير لمجلس الشيوخ الأمريكى حول تعذيب المعتقلين لاستنطاقهم، تعطى ضوءا أخضر لإعادة إنتاج هذه الممارسات وطنيا باستخدام نفس الذريعة، وهى «محاربة الإرهاب». وقد أشار وثائقى الجزيرة إلى تعاون بين المخابرات البريطانية والإسرائيلية وعناصر الوحدة السرية لمكافحة الإرهاب فى كينيا للتدريب على عمليات التصفية. وكانت تقارير صحفية قد أشارت إلى دعم إسرائيلى مخابراتى للأجهزة الكينية لتحرير الرهائن الذين احتجزهم مسلحون من تنظيم الشباب فى المركز التجارى «ويستجيت» فى سبتمبر من العام الماضى.
وأخيرا، فإن الحصانة التى تنعم بها الأجهزة المنفذة لهذه العمليات غير القانونية تشجعها على انتهاج أسلوب مماثل فى حق مواطنين آخرين خارج دائرة الاشتباه مادامت هناك حجة جاهزة يمكن استخدامها للإفلات من المسائلة. وقد رصد الوثائقى مثالا لتصفية خمسة من الشباب بعد مشادة مع بعض ضباط الشرطة فى أبريل الماضى. ولمواجهة أية اتهامات أعلنت الشرطة أن الشباب أعضاء فى تنظيم الشباب الصومالى. كما رصد ألستون فى تحقيقه العديد من الأمثلة التى وصل من خلالها إلى خلاصة مفادها أن حوادث القتل خارج إطار القانون ليست حوادث فردية، وإنما أصبحت عمليات ممنهجة، وواسعة الانتشار.
من غير المتوقع أن تنتهى مواجهة الحكومات الأفريقية مع الجماعات المسلحة قريبا، حتى وإن نجحت هذه الحكومات فى السيطرة على معاقل هذه الجماعات، كما هو الحال فى الصومال. وبغض النظر عن الخلاف حول أسباب نشأة هذه الجماعات أو أهدافها الحقيقية، فإن خبرة السنوات القليلة الماضية تثبت أن التعامل خارج إطار القانون مع هذه الجماعات، وتوسيع دائرة الاشتباه، وإطلاق يد الأجهزة الأمنية فى التعامل مع المشتبه فيهم وغيرهم يصب فى صالح هذه الجماعات ويطيل من أمد المواجهة.
---------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، 28/12/2014.
رابط دائم: