منذ إنشاء كيانها الغاصب، "إسرائيل"، في العام 1948 وحتى يوم الناس هذا والأحزاب الصهيونية ترفض، خطاباً وممارسة، تحديد حدوده، وتتشبث بتعريفه وتحديد وظائفه ك"دولة قومية للشعب اليهودي"، ما يعني الإصرار على إسقاط حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض، وعلى تهديد وجود فلسطينيي 48 وحقوقهم الوطنية، وعلى التنكر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وبناء دولة مستقلة . وراهن الخلاف بين الأحزاب الصهيونية ليس أكثر من خلاف بين أحزاب تجاهر بمطلب الاعتراف ب("إسرائيل" الكبرى)، وأحزاب تتبنى المطلب ذاته مع اختلاف حول الصيغ والوسائل والتوقيت، تفادياً لاتساع نطاق ومضامين عزلة "إسرائيل"، وما تواجهه من حملات مقاطعة شعبية عالمية، أوروبية خصوصاً، ومنعاً، وهنا الأهم، لدفع أكثر القيادات الفلسطينية تمسكاً بخيار التفاوض الثنائي المباشر برعاية أمريكية سبيلاً لتحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، نحو تنفيذ تهديدها بإنهاء تعاقد أوسلو بالتزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية .
يعنينا مما تقدم التشديد على عدم الرهان على نتائج انتخابات "إسرائيل" المقبلة، ما دامت تلك هي حدود ومضامين خلافات الأحزاب الصهيونية، التي في إطارها لا أكثر، يجب وضع المغزى السياسي لحل "الكنيست" والذهاب إلى انتخابات مبكرة، ولتجدُّدِ الخلاف العلني بين رئيس وزراء الاحتلال نتتياهو ورؤساء أجهزته الأمنية الذين حملوه، لا الرئيس الفلسطيني أبو مازن، مسؤولية انفجار الهبة الشعبية المستمرة في مدن الضفة، والقدس خصوصاً، ناهيك عن تحميله - سابقاً - مسؤولية مخاطر دعوته إلى توجيه ضربة للمفاعلات النووية الإيرانية، كضربة تعارضها الولايات المتحدة وتنطوي على إشعال حرب إقليمية، تتجاوز حدود قوة الجيش "الإسرائيلي"، كجيش انكشفت حدود قوته وقدرته على الردع والحسم، بدءاً من طرده من جنوب لبنان بلا قيد أو شرط على يد المقاومة اللبنانية العام ،2000 مروراً بإفشال عدوانه على لبنان العام ،2006 بل هزيمته باعتراف قادته ولجنة تحقيق رسمية، عرجاً على عجزه عن تحقيق نصر ميداني حاسم في ثلاثة اعتداءات، بل حروب تدمير وإبادة، على قطاع غزة المحاصر في ،2008 و،2012 و،2014 وصولاً إلى عجزه عن إخماد الهبة الشعبية المستمرة التي انطلقت من القدس في يونيو/حزيران الماضي .
وأكثر، ثمة ما يحمل على الاعتقاد، وربما الجزم، بأن الهجوم السياسي والميداني غير المسبوق الذي يقوده نتنياهو في إطار ائتلاف يضم حزبه، الليكود، وأحزاباً صهيونية فاشية بشقيها العلماني والديني، إنما يعبر عن أزمة المشروع الصهيوني، حتى وإن بدا الأمر على نحو مختلف . فأهداف هذا الهجوم وأطماعه لا تتناسب لا مع حدود قوة "إسرائيل" الفعلية، عسكرياً وأمنياً، ولا مع حدود قوتها الفعلية، ديموغرافياً، حيث تشير أحدث إحصاءات كبار الديموغرافيين "الإسرائيليين" إلى: "أن اليهود لم يعودوا أغلبية سكانية بين البحر والنهر"، أي داخل فلسطين الانتدابية . ما يعني ضرباً للافتراضين الأساسيين اللذيْن قام عليهما الحلم الصهيوني بجعْل "فلسطين يهودية كما هي انجلترا انجليزية" . فلا جلْب كامل يهود العالم، (أو أغلبهم على الأقل)، إلى فلسطين، تحقق، ولا طرد الشعب الفلسطيني، (أو أغلبه على الأقل)، تحقق . هذا ناهيك عن أن زمن موجات الهجرة اليهودية الكثيفة قد ولَّى، وأن زمن تشريد أو نزوح مئات آلاف الفلسطينيين عن أرضهم كما حصل في عامي النكبة ،1948 و"الهزيمة"، ،1967 قد ولَّى أيضاً . فلا العصر هو ذاته، ولا الوعي الوطني الفلسطيني هو ذاته . والشعب الفلسطيني الذي لم يستسلم طوال قرن من الصراع، لن يستسلم للتصعيد السياسي والميداني الراهن الذي يقوده نتنياهو . ما يعني أن تشبث الأحزاب الصهيونية كافة، وإن بصيغ مختلفة، بهدف ("إسرائيل" الكبرى) يصطدم بكل الحقائق آنفة الذكر، وأهمها حقائق التوازن الديموغرافي على الأرض، التي لا يمكن تجاوزها بغير ارتكاب المزيد من جرائم الحرب والتطهير العرقي والإبادة الجماعية، كنتائج حتمية للهجوم السياسي الذي تشنه حكومات الاحتلال الصهيوني بعامة، وحكومات المستوطنين بقيادة نتنياهو بخاصة، وكرذائل لم تعد شعوب العالم، بما فيها شعوب "العالم الغربي"، قادرة على تحمُّلها، أو الصمت عليها، أو الوقوف مكتوفة الأيدي تجاهها، بل ولا الصمت على سياسة مَن يرعاها من حكومات، في مقدمتها إدارات الولايات المتحدة التي بشر كثيرون أنها بوصول رئيسها أوباما الحالي للحكم ستتبع سياسة خارجية أكثر توازناً تجاه قضايا العالم والمنطقة، عموماً، وتجاه الصراع العربي الصهيوني، وجوهره القضية الفلسطينية، خصوصاً، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، ما ساهم في زيادة نطاق وجهات ومضامين تحميلها مسؤولية استخفاف ربيبتها "إسرائيل" بالقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، بوصفها "دولة" مارقة بكل ما للكلمة من معنى .
بذلك، وعليه، لم نعد أمام انكشافٍ لحدود قوة راهن "إسرائيل" بالمعنيين العسكري والديموغرافي، فحسب، بل أمام انكشافٍ لحدود قوتها بالمعنييْن السياسي والدبلوماسي، أيضاً . وهذا ما يحملنا على الاعتقاد بأن الهجوم السياسي والميداني الصهيوني بقيادة نتنياهو، إن هو إلا تعبير عن أزمة خلقها، أساساً، فشل الحركة الصهيونية في تفريغ فلسطين من كامل أو أغلب شعبها، وفي جلب كل أو أغلب يهود العالم إليها، بكل ما يولده ذلك، فضلاً عن استمرار مقاومة شعب فلسطين، وتبدُّد أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، من قلق لدى قادة "إسرائيل" الثابتين على هدف ("إسرائيل" الكبرى)، وعلى توسُّل العالم الاعتراف بها، لكنهم عبثاً، ومعهم راعيهم الأمريكي، يحاولون، ذلك على الرغم من إدراكنا لمخاطر ما تمر به الحالة الرسمية الفلسطينية من انقسام داخلي مدمر، وما تمر به مراكز قوة الأمة العربية، دولاً ومجتمعات، من حالة انتحار داخلي، أداته تنظيمات إسلاموية تكفيرية إرهابية، صار القاصي والداني يعرف ارتباطاتها المباشرة وغير المباشرة بثوابت مصالح سياسة الولايات المتحدة، ومنها الحفاظ على تفوق "إسرائيل" على ما عداها من دول المنطقة، ارتباطاً بوظيفتها الاستعمارية الثابتة والمستمرة .
--------------------------------
نقلا عن دار الخليج، الأحد، 21/2/2014.
رابط دائم: