يخلط صعود جيل جديد من الإرهاب أكثر تطرفاً، وأشد خطراً الأوراق في النظام العالمي، وربما يخلق هذا التطور أنماطاً من التفاعلات تختلف في بعض جوانبها عما كان سائداً في العلاقات الدولية منذ نشأة الدول الوطنية.
فقد أدى تراكم أخطاء الحرب الأولى التي أعلنتها الولايات المتحدة على الإرهاب عقب هجمات سبتمبر 2001 إلى تنامي هذا الإرهاب حجماً ونوعاً، بعكس ما كان مستهدفاً من تلك الحرب،لذلك يتحول الإرهاب الراهن، والذي يمثل تنظيم «داعش» رأس الحربة فيه، إلى قوة ثالثة في النظام العالمي، فيما يبدو إرهاصاً لحالة جديدة في مسار تطور هذا النظام في العصر الحديث.
وتنطوي هذه الحالة على بُعدين ينبغي أن يبدأ المعنيون بدراسة العلاقات الدولية ببحثهما وسبر أغوارهما.
أما البُعد الأول، والأقل أهمية، فيتعلق بهيكل النظام العالمي الذي يتجه لسنوات عدة قادمة، لأن يأخذ طابعاً ثلاثياً يختلف عن اتجاهه العام خلال قرنين من الزمن كان هذا الهيكل فيهما تعددياً (أكثر من ثلاثياً)، أو ثنائياً أو أحادياً.
أما البُعد الثاني، والأهم، فهو أن الإرهاب الذي يهدف إلى تقويض أركان النظام العالمي وقواعده وإحلال منظومة مختلفة محله، بات يملك من القدرة على التأثير، ما يجعله إحدى القوى المركزية، بعد أن كان قوة هامشية من قبل، ويبدو على هذا النحو أن النظام العالمي يتجه إلى تفاعلات تقوم على أساس صراع بين ثلاث مجموعات من القوى.
فحتى شهور قليلة مضت، كان المشهد العام في النظام العالمي هو أن الصراع يتنامى بين القوى المحافظة الهادفة للحفاظ على استقرار النظام العالمي والالتزام بقواعده وترتيباته، والقوى المراجعة التي تسعى إلى تغيير بعض هذه القواعد والترتيبات أو كثير منها، وتعمل من أجل تعديلها وتطويرها، لكن باستخدام آلياتها في الأغلب الأعم.
غير أن هذا المشهد بدأ يختلف عندما تبين أن قدرات القوى الإرهابية وإمكاناتها أكبر مما كان مقدراً، الأمر الذي دفع الرئيس أوباما للاعتراف بأن إدارته وأجهزتها الأمنية أساءت تقدير تلك القدرات، وخاصة ما يمتلكه «داعش» منها، لذلك كانت الذكرى الثالثة عشرة للهجمات التي أطلقت الحرب الأولى على الإرهاب مناسبة لإعلان حرب ثانية عالمية هذه المرة تسعى الولايات المتحدة إلى حشد أكبر دعم دولي لها، وليس ممكناً أن تحدث هذه التعبئة الهائلة على المستوى الدولي إلا نتيجة تغير كبير يحمل في طياته تحولات محتملة في أنماط التفاعلات السائدة في النظام العالمي ومؤثرة في مستقبله.
وربما يكون أول هذه التحولات هو اضطرار القوتين المحافِظة والمراجِعة إلى إعادة النظر في بعض حساباتهما، كل بمقدار، والسعي إلى إعادة ضبط التفاعلات الصراعية بينهما في ضوء صعود قوة ثالثة مدمِّرة تهدد العالم.
فالمفترض في مثل هذا الظرف أن تضع كل من الولايات المتحدة وحلفائها من ناحية، وروسيا والصين والدول الأصغر الدائرة في فلكهما، في حساباته خطر هذا التهديد.
ويفترض أيضاً أن ينعكس ذلك تدريجياً في سياسات محددة، وليس فقط في بيانات يجمعها رفض الإرهاب والاتفاق على ضرورة محاربته، غير أنه يصعب توقع المدى الذي يمكن أن يبلغه إدراك خطر القوة الثالثة المُدمِرة الصاعدة، وما يقترن به من سياسات، لكن المؤكد هو انخفاض السقف الذي يمكن أن يبلغه الصراع بين القوى المحافِظة والقوى المراجِعة، خاصة بين الولايات المتحدة وروسيا، وتجنب تصاعده باتجاه حرب باردة جديدة، بحيث تظل «البرودة» قائمة في الخطاب الرسمي، دون أن تمتد إلى السياسات المتعلقة بالتسلح الاستراتيجي.
وكانت «البرودة» في المشاعر واضحة في قمة دول مجموعة الـ20 في بريزبن، منتصف الشهر الجاري، بين القادة الغربيين والرئيس الروسي، لكن حرص القوى المحافظة وقوى التغيير على ألاَّ يصب الصراع بينهما في مصلحة القوة المدمِّرة ينبغي أن يقترن باتجاه الولايات المتحدة لمراجعة سياستها الخارجية المرتبكة، واستيعاب دروس حربها الأولى على الإرهاب والنتائج العكسية المترتبة عليها.
---------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الإثنين، 8/12/2014.