من السكون إلى الحركة فى السياسة الخارجية المصرية
4-12-2014

جميل مطر
*
مرت سنوات عديدة ركدت فيها الدبلوماسية المصرية. سنوات تراجع نشاطها وتناقصت أهدافها وتضاءل عائدها. شاخت مع حكام شاخوا توهموا أن الدول الأخرى سوف تتعاطف مع شيخوختهم، ولن تتخلى عنهم. وعند الأزمة تخلت عنهم.
 
نشبت ثورة، ولاتزال ناشبة. ورغم ذلك مازال القديم مقيما بعناد وإصرار وبقسوة أحيانا، ومازال المستقبل يطرق الأبواب مستأذنا بأدب وخلق رفيع. القديم يرفض أن يغادر والمستقبل يتوسل ليدخل وبينهما حكم لم يحسم أمره بعد. يعرف أنه يستحيل أن يستمر طويلا فى حيرته، ويعرف أنه لن يتحمل طويلا ضغط الشارع وأغلبه حتى الآن هادئ وصبور. ويعرف أن البيئة الخارجية تضغط، ولكن بصخب عالٍ وصبر نافذ. لذلك أراه منطقيا، وأظن أنه كان متوقعا، أن تخرج الدبلوماسية المصرية من كمونها لتتحرك فى اتجاهات كثيرة، ليس فقط لأنها بالنسبة لأى نظام حكم فى مصر، الوسيلة الأسرع، بحكم تميزها بيروقراطيا وبحكم كفاءتها، لخلق الانطباع بالحركة وبالنية فى التغيير. أراه منطقيا أيضا لأن الدنيا من حولنا تغيرت شكلا وموضوعا خلال مراحل الكمون المصرى.
 
أرى أمامى، بالوضوح الممكن، محاولة جادة لتنشيط علاقات مصر الخارجية، وجهد مؤكد بحثا عن مكان لمصر فى نظامين يتشكلان فى آن واحد، نظام إقليمى ونظام دولى. أرى اقتناعا بأن تكون السياسة الخارجية قاطرة تجر عربات التنمية والثقة بالنفس. أرى كذلك مبررات، ولعلها حوافز ومنشطات، تدفع فى اتجاه تنشيط السياسة الخارجية المصرية، أهمها الخمسة التالية:
 
أولا: قيادة سياسية جديدة تسعى لإثبات نفسها على الصعيدين الداخلى والخارجى. تدرك كما سبق وأدركت قيادات أخرى فى الماضى، أن خلفياتها العسكرية وإن أفادت فى تذليل صعوبات بعينها، إلا أنها تشكل عقبة بعد أخرى على طريق تنمية العلاقات مع الخارج. علمتنا التجارب أن حكومات الدول الكبرى تمارس النفاق أحيانا فى التعامل مع قيادات عسكرية فى دول العالم النامى، إلا أنه لا يجوز أن نتجاهل أن الرأى العام العالمى يظل سيفا مسلطا، وسيظل يلعب دورا مؤثرا فى علاقات مصر الخارجية. ندرك أن الدبلوماسية المصرية التى استهلكت جهدا ووقتا فى الدفاع عن ممارسات داخلية، يتعين عليها أن تنتقل فى أقرب فرصة إلى التركيز على قضايا أخرى أكثر إيجابية. وأظن أن هذا التوجه كان فى فحوى الرسائل الدبلوماسية التى بثها القادة الأوروبيون فى الآونة الأخيرة، حين طلبوا سرا من وسائط الإعلام الأوروبية تجاوز موضوع السياسات الداخلية فى مصر، وتركه للمسئولين يناقشونه فى جلسات مغلقة. بمعنى آخر، هناك قوى دولية حريصة على أن يكون لمصر، وبسرعة، مكان فى الأسرة الدولية الفاعلة.
 
ثانيا: لم يعد جائزا وآمنا انتظار استثمارات تأتى من جهة واحدة، أو الاعتماد اقتصاديا على مصدر خارجى واحد. ولم يعد مقبولا أن نحلم بتحقيق اكتفاء ذاتى فى كل ما نحتاجه ولمدد مفتوحة. ولم يعد مفيدا أن نقبل، تحت الضغط والحاجة، شروطا مرفقة بكل استثمار، لينتهى الأمر بمصر مكبلة، كما كانت فى العقود الأخيرة، بشبكة التزامات وقيود أعمت بصيرة حكامها وأفسدت أجيالا. لم يعد مستساغا أن نطلب مشاركات فى بناء نظام اقتصادى مصرى قبل أن نعلن على الملأ هوية هذا النظام.
 
مطلوب من الخارج دعم اقتصادى مرن ومتفهم ومحفز على الاطمئنان، ومطلوب من الدبلوماسية المصرية توسيع فرص الدعم وعدم قصر الجهود على دول أو أقاليم بعينها، المطلوب الأهم الآن هو تزويد الدبلوماسية المصرية بتعريف صريح لهوية مصر الاقتصادية وفلسفتها الاجتماعية وتوجهاتها الاقليمية. ليس مستحبا استمرار الأخذ طويلا بنصيحة أهل النصح بالغموض والتعمية والتمويه.
 
ثالثا: ليس خافيا أو سرا الزعم بأن الحكومة المصرية، مثل حكومات أخرى، تستفيد من الحالة الإرهابية، لكسب أصدقاء وحلفاء وجمع معونات وقروض وأسلحة، وفرض مشاركة الساحة الدولية. الإرهاب نقمة لاشك فيها، ولكنه فى نظر البعض نعمة إن أحسنت الدول إدارة علاقاتها الخارجية وتشديد قبضتها الداخلية مستخدمة واقع أو قصة استهدافها من جانب الإرهاب.
 
المشكلة تبدو فادحة عندما توصف الحالة الإرهابية بطول الأجل، وهو ما تحاول التبشير به الولايات المتحدة، ودول أخرى. الإرهاب طويل الأجل أنجع وسيلة لتخصيص ميزانيات دفاع أكبر، وتحصين الحكومات ضد النقد والتضييق على حريات التعبير والمشاركة السياسية، وتطوير تكنولوجيات متنوعة وتشكيل أذرع جديدة للأمن وخصخصة بعضها، وإقامة أحلاف إقليمية دولية متخصصة فى هذا النوع من الصراعات، والحصول على منح ومعونات خارجية. ولا تخفى من ناحية أخرى الفائدة التى تعود على قطاعات معينة فى الدولة من تقنين الحالة الإرهابية كحالة طويلة الأجل، وفى الغالب سينتهى الأمر بأن يصبح الإرهاب «طويل الأجل» مؤسسة دائمة من مؤسسات الدولة، ومصدر نفع لمنتفعين عديدين، والقضية الأمثل لربط السياسة الخارجية بالسياسات الداخلية، وبندا ثابتا على جدول أعمال الدبلوماسية، والقمم الدولية والإقليمية.
 
الواضح لنا أن القيادة المصرية تحركت بكثافة فى هذا المجال، واستطاعت أن تضع نفسها على قائمة الدول التى يهددها الإرهاب بنوعيه، طويل الأجل وقصير الأجل، وبالتالى فرضت على دبلوماسيتها وسياساتها الخارجية أن تنشط فى كل الاتجاهات، لتحقيق عائد مجز وكسب الدعم الخارجى المناسب والدائم إن أمكن. ولا يخفى علينا احتمال أن يصيبنا ما أصاب المجتمع الأمريكى من تغيير لم يفلت منه هيكل النظام السياسى والدبلوماسية الأمريكية وفنون الحرب وعلومه وكذلك أوجه السلوك فى الشارع الأمريكى، نتيجة تبنى فكرة ديمومة الإرهاب.
 
رابعا: لم يحدث إن كان حال الإقليم أسوأ من حاله فى الوقت الراهن. كان الحال سيئا، ولكنه الآن أسوأ بكثير. لا أتحدث عن حال النظام الإقليمى على إطلاقه، ولكنى أتحدث عن وضع مصر فى هذا النظام، وعن رؤية النظام الإقليمى لمصر، وبخاصة رؤيته لموقعها ومستقبلها فيه.
 
كان لمصر دائما رأى وموقف، كانت أهدافها فى النظام واضحة، وبعض هذه الأهداف، مثل تبنيها وترويجها لعقيدة النظام وحق الشعوب فى توزيع عادل لإمكانات النظام، كانت سببا فى صراعات وحروب عربية. وقد راح مفكرون يدفعون خلال مرحلة «الكمون» المصرى بالابتعاد عن مشكلات النظام الإقليمى، والتعامل مع أعضائه بانتقائية أو انتهازية لها ما يبررها، والاستمتاع بلذة الانعزال والكمون، غير آبهين بحقيقة أن مشكلات الإقليم إن لم تحل تتراكم فى انتظار مساهمة مصر فى حلها أو فى تفجيرها.
 
فى مصر الآن قيادة جديدة أتصور أنها مندهشة لحجم هذا الثقل الرهيب والمتزايد للنظام الإقليمى على السياسة الخارجية المصرية. لا يقتصر هذا الثقل على الضغوط المتناقضة لاتخاذ موقف من الأزمة السورية وسبل حلها، والتطورات المذهلة الحادثة فى اليمن، واليمن، كما نعرف، حوار متجدد دائما فى أروقة العسكرية المصرية وملف لم يغلق. هناك أيضا الرغبة المحمومة لدفع مصر لاتخاذ موقف عداء من إيران، فى وقت يقرر فيه قادة العالم استرضاء إيران أو على الأقل التعايش معها، وفى وقت تبدو مصر «المفكرة والتاريخية» عصية على الاستجابة لهذه الرغبة المحمومة. وهناك الانفعالات غير الناضجة لمسئولين فى تركيا تجاه عديد أزمات الإقليم، وبخاصة أزمة التعامل مع الإخوان المسلمين وأزمة سوريا وقضية غاز شرق البحر المتوسط، كلها أزمات تشد مصر إليها حتى وإن أبدت تمنعا أو ترددا.
 
هناك أيضا القضية أم القضايا والشغل الشاغل للنظام الإقليمى، وهى «دور مصر». هذه القضية التى أساء مختلف الأطراف ومنهم أو على رأسهم قيادات مصر السياسية فى مراحل عديدة التصرف فيها، فأساءوا إليها وأساءوا إلى مصر. كان أمرا مثيرا لغضب الحريصين على مكانة مصر الإقليمية عندما خرجت أصوات إعلامية فى مصر، فى وقت كانت مصر تنحدر بسرعة، فسادا وترهلا وكسلا، تكتب عن دور مصر الرائد والقائد، وتروج له بين سخرية عقلاء الإقليم وأصدقائها.
 
الآن مطلوب رأى مصر وموقف لها من قضايا الإقليم. أعتقد أن المعضلة الكبرى التى ستواجه السياسة الخارجية المصرية فى الأجل القريب ستتضح أمامنا عندما نتأكد أن العالم الغربى قرر تخفيض اهتمامه بالشرق الأوسط عموما وتركه لأهله وحكامه يبثون فيه إرهابا وتشددا ويتغولون فيه قمعا وفسادا. وقد يتركه الغرب للصين إن شاءت أن يكون لها فيه نفوذ، وأن تكون مستعدة لحمايته من نفسه وحماية مصادر نفطها من عبثه. هذا هو الاحتمال الذى يستحق من عقول الإقليم الناضجة والمتفتحة وبخاصة من قادة الدبلوماسيات العربية المتطورة الاهتمام والتركيز.
 
يسىء البعض منا، بحسن نية غالبا أو بسوء فهم أو نتيجة التأثر بديماجوجية مفرطة، إلى السياسة الخارجية المصرية، وبخاصة إلى أجهزة مصر الدبلوماسية والمسئولين عن الأمن القومى، عندما يصرخ بقلمه أو لسانه مطالبا دول الإقليم وشعوبها، عربا وغير عرب، ومصر قبلها جميعا بالإقرار فورا بدور مصر الرائد والقائد دائما وأبدا. يتجاهل هذا الفريق، وله ممثلون عديدون منتشرون فى الصحف والفضائيات والإذاعات المصرية، حقيقة أن الدور يحتاج إلى إمكانات وإلى إبداع وإلى استقرار وإلى فهم وإلى اطلاع وأخيرا إلى تبنى مشروع إقليمى واضح المعالم وطويل الأمد. لا شرط من هذه الشروط جاهز الآن. هنا تتضح أهمية ظهور بوادر الاهتمام بالسياسة الخارجية المصرية واتخاذ خطوات، أرجو أن تكون ثابتة، نحو تطويرها. الحاجة ماسة أكثر من أى وقت مضى إلى «فهم» مختلف وأعمق وأحدث للإقليم، لأنه بالفعل إقليم مختلف عن الإقليم الذى شرفنا بقيادته لفترة والمشاركة فى قيادته لفترة أخرى والتخلى عنه لفترة ثالثة.
 
جيل هذه الأيام من دبلوماسيى مصر غير مدرب على التعامل سياسيا مع إقليم «طوائفى» بمعنى إقليم تحرك سياساته وصراعاته الطوائف. جيل تجاربه قليلة للغاية مع نظامنا الإقليمى وبخاصة بعد أن حصلت على بعض مفاتيحه دول غير عربية فى حجم مصر وتاريخها وإمكاناتها العسكرية، وربما أقوى. دبلوماسيتنا فى «الإقليم» تعودت أن تتعامل عربيا، أي بأساليب عربية صرفة فى الشئون الإقليمية، وجديد عليها، أن تتعامل الآن بشكل مختلف وبلغة مختلفة وبأساليب مختلفة، فاللاعبون الأساسيون فى الإقليم ليس كلهم من العرب.
 
من مسئوليات القيادة المصرية، وهى مسئولية صعبة للغاية، السماح بإعادة تأهيل دبلوماسيتنا، وإعادة توصيف دور مصر، ليصبح كلاهما مسايرا إن لم يكن على مستوى، التحرك فى الإقليم.
 
خامسا: للمرة الثانية خلال سبعين عاما، تشهد قيادة سياسية فى مصر تحولا جوهريا فى النظام الدولى. شهدت قيادات الأربعينيات قيام نظام القطبين بهيمنة أمريكية، وفى الثمانينيات شهد نظام مبارك سقوط نظام القطبين وانفراد أمريكا بالقيادة. ويبدو أن القيادة الجديدة سوف تشهد قيام قيادة ثنائية، أو ثنائية متعددة، لنظام دولى مختلف، لن تكون أمريكا فيه مهيمنة.
 
ستكون بلا شك تجربة مثيرة بكل المعانى، فالانتقال لن يكون مجرد عملية آلية، أو تسليم وتسلم، أو منهزم يستسلم لمنتصر، وإنما سلسلة مترابطة من محاولات وجهود تتراوح بين الحروب الإقليمية والإرهابية والصراعات والأزمات وبين سباقات بين دول ناهضة ودول انتهى دورها ولا تريد أن تعترف بانتهاء الدور. الكل يسعى لموقع متميز فى هذا النظام الدولى الناشئ، والكل يحاول أن يشارك فى صنع قواعده وقوانينه، الكل يتمنى أن يتفادى هيمنة جديدة، والكل يريد توسيع قاعدة نفوذه الإقليمى.
 
خلاصة الموضوع، تنتظر القيادة المصرية مهمة شاقة لتطوير السياسة الخارجية المصرية ودعم أجهزتها الدبلوماسية استعدادا للمشاركة فى جهود صنع مستقبل للعالم ومستقبل للإقليم ومستقبل لمصر.
 
---------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الخميس، 4-12-2014.

رابط دائم: