لاشك في أن ثورات الربيع العربي اقترنت بشكل كبير بصعود الإسلاميين سياسيا، حيث شكلت تلك الثورات مرحلة جديدة للإسلاميين بشكل عام، والسلفيين بشكل خاص، إذ تمخض عنها انخراط للدين في السياسة، وشكل السلفيون في مصر وفي باقي دول الربيع العربي فاعلا مؤثرا في ترتيبات ما بعد الثورة، وهو ما أثار من جديد التساؤل المتعلق بمدي إمكانية التقارب بين الدين والديمقراطية في العالم العربي. هذا هو ما يحاول تبيانه محمد أبو رمان، مؤلف كتاب "السلفيون والربيع العربي"، حيث تكمن الفرضية الرئيسية للكتاب في أن الثورات العربية أحدثت تأثيرا في الإسلاميين أدت إلي تحولات في دورهم السياسي، الأمر الذي انعكس علي خطابهم وحضورهم في المشهد السياسي.
يتناول الكتاب المشهد السلفي عشية الثورات العربية منذ بدايات عام 2011 وخلالها، والفترة الممتدة بعدها حتي بدايات عام 2013، وهي مرحلة مهمة تشكل تحولا كبيرا جديرا بالدراسة والبحث.
تأريخ لماهية السلفية:
يحاول الكاتب في الفصل الأول من الكتاب، وعنوانه "من هم السلفيون؟"، تتبع أصل وتعريف كلمة السلفية، حيث إنها في اللغة تعود إلي مادة "سلف"، والسالف هو المتقدم، والسلفيون هم الجماعة المتقدمة، ويقصد بها العصور الأولي من الإسلام، بفرض أنها تمثل الوجه الناصع والصحيح من فهم أحكام الدين، وتشريعاته، وتطبيقاته. أما في أدبيات الفكر السياسي، فتعرف السلفية بأنها حركة إصلاحية تسعي للخروج من حالة الانهيار السياسي، والدعوة لإحياء التراث الإسلامي، واستعادة صورة الإسلام النقية.
يري الكاتب أن ثمة اختلافا حول تعريف السلفية، ليس بين باحثي ودارسي العلوم الاجتماعية والسياسية فحسب، ولكن أيضا داخل الخطاب السلفي نفسه، وبين تياراته المتعددة التي تدخل في سجالات حول من هو الممثل الشرعي للخطاب السلفي.
ويؤكد الكاتب أن جذور السلفية كانت موجودة عند المذاهب الفقهية السنية، في سياق المجادلات الكلامية مع المعتزلة، التي دارت حول بعض المسائل العقائدية. ومع سقوط بغداد 656هـ، ظهرت نزعة سلفية ثانية أكثر نضجا ووضوحا مع ابن تيمية الذي تشكل عبره الإطار العقائدي والمعرفي للسلفية. أما في العصر الحديث، فبرزت السلفية الوهابية في شبه الجزيرة العربية مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب. ومع نهاية القرن التاسع عشر، تبلور ما يسمي بالسلفية الإصلاحية التي تشكل امتدادا لسلفية محمد بن عبد الوهاب، مع تأكيدها نبذ التقليد، ورفض التعصب المذهبي وقد تزامن ظهور السلفية الإصلاحية مع انهيار الدولة العثمانية، والاحتكاك مع الغرب، مع بدء المرحلة الاستعمارية، فزاوجت هذه السلفية بين الإرث الوهابي من جهة، والنزوع العقلاني المتأثر بالعلوم والمعارف الغربية من جهة أخري، ومن أبرز رموز هذ النهج محمد رشيد رضا.
وفي مرحلة لاحقة، ظهر ما اصطلح علي تسميته بالسلفية الوطنية في المغرب العربي، وكان محور هذه الحركة مقاومة الاستعمار الغربي، ومن أبرز رموزها ابن باديس، وعلال الفاسي.
ويري الكاتب أنه في سبعينيات القرن الماضي، عاد نجم التيارات السلفية، وأسهمت السعودية بدور محوري جراء التزاوج التاريخي ما بين السلفية والسلطة هناك. وكانت المقاربة السلفية تتمثل في الاهتمام بالجانب الديني والدعوي، والابتعاد عن السياسة. غير أن تزاوجا آخر حدث في التسعينيات ما بين الفكر الجهادي والسلفي، برز في أوضح صوره عبر تنظيم القاعدة، وحاضنته التيار السلفي الجهادي.
انخراط السلفيين في العمل السياسي:
يؤكد الكاتب أن السلفيين قد انقسموا في مواقفهم حول الثورة المصرية. بيد أنه وبعد نجاح الثورة في إسقاط النظام سلميا، اضطر السلفيون لخيارين لا ثالث لهما، إما الانخراط في اللعبة السياسية، أو وجودهم خارج دائرة التأثير. وقد ارتأي التيار القطبي بقيادة محمد عبدالمقصود، والدعوة السلفية في الإسكندرية ضرورة الانتقال إلي صيغة جديدة، ومحاولة تكييف الديمقراطية مع أيديولوجيتهم. واستلزم ذلك -بحسب الكاتب- تبريرا شرعيا وأيديولوجيا، فجاء الصراع علي الدستور، بحسبان النظام الديمقراطي أفضل من الحكم الاستبدادي، لأنه -من وجهة نظرهم- مرحلة مؤقتة في اتجاه إقامة الحكم الإسلامي.
ويري المؤلف أن دخول السلفيين إلي المشهد السياسي، وتشكيل الأحزاب السياسية جاء ابتداء عبر البوابة المصرية، ثم بدأ يلقي بظلاله علي السلفيين في أنحاء متفرقة من الدول العربية الأخري، وأن السلفية المصرية ما بعد الثورة كانت هي العامل المؤثر في الحركات والجماعات السلفية الأخري في المنطقة العربية، بعدما كانت السلفية السعودية هي مركز التأثير.
ويخصص الكاتب فصلا لدراسة السلفيتين اليمنية والأردنية، الأولي كنموذج علي وقوع الثورة، والأخيرة كنموذج علي عدم وقوعها، حيث إنه في الحالة اليمينة -بحسب الكاتب- انقسم السلفيون بين محذر من معصية ولي الأمر، ومن هذه الفتنة، في حين جاءت مواقف أخري مرتبكة، لكنها أقرب إلي الثورة، ومؤيدة لها بمشاركة شباب سلفيين، ومعهم شيوخ منحوا الفتاوي والشرعية للاعتصامات. وكما جرت الأمور في مصر، ظهر شيوخ سلفيون علي شاشات التلفاز يرفضون الثورة، ويدعون إلي فض الاعتصام، وتم توظيف الإعلام الرسمي في الحض علي طاعة ولي الأمر
أما في الحالة الأردنية، فلم يشارك السلفيون في المظاهرات، والمسيرات، والاعتصامات المطالبة بالإصلاح السياسي، لكنهم في المقابل لم يدخلوا في صدام مباشر مع القوي الإصلاحية، واكتفوا بإصدار كتيبات وبيانات، يؤكدون فيها موقفهم الرافض للمظاهرات. وبرز النشاط الأكبر في المواقف من الثورات الديمقراطية لدي علي الحلبي، تلميذ مؤسس السلفية الأردنية، الشيخ ناصر الألباني، فقد عمد الحلبي منذ البداية إلي تحريم التظاهر، والرد علي الفتاوي المؤيدة لها. ويختم الكاتب هذا الجزء بالإشارة إلي أن مواقف السلفيين الأردنيين من تأسيس الأحزاب، والدخول في السياسة جاءت متضاربة ومتباينة.
السلفيون وآفاق المستقبل:
يتساءل الكاتب عن الدور المستقبلي للسلفيين في المشهد السياسي، وعن مدي استنساخ تجربة الإخوان والسير علي دربهم، أو إمكانية إحداث تطور أيديولوجي سلفي أكثر تعقيدا وصعوبة من تجربة الإخوان، لاختلاف طبيعة خطاب التيارات السلفية، وشروطها الداخلية بنيويا عن الحالة الإخوانية. فيري الكاتب أن أحد وجوه الاختلاف الجوهرية تتمثل في أهداف كل منهما، وظروف النشأة والتطور. فالإخوان ظهروا في الأصل ردا علي تحدي التغريب والعلمنة علي أرض الواقع، وكان تصورهم أن الاستجابة تكون في حركة اجتماعية تنشر الإسلام في الواقع بخطاب معاصر، خارج الأطر التقليدية، مثل الأزهر، في حين أن السلفية هي بالأصل أقرب إلي مذهب فكري، تمركزت حول النص، وفي الرد علي الفرق الإسلامية. أي أنها، بعكس الإخوان، انتقلت من النص إلي الواقع، الذي عندما تنظر إليه، تكون معنية بسؤال أساسي في تعريفه شرعيا، وقولبته ضمن الأحكام الإسلامية
ويؤكد الكاتب ختاما أن الميراث السلفي الكبير المتحفظ علي الديمقراطية وقيمها سيكون بمنزلة قيد شديد الوطأة علي الحركة السلفية في المرحلة المقبلة، وسيغرق الأحزاب الجديدة في مناظرات داخلية واسعة مع أنصارها وقواعدها. وبالتالي، فإنه -بحسب الكاتب- لا يستطيع أحد التكهن بمسارات السلفيين القادمة، خاصة أن معطيات الواقع آخذة في التغير، والأفكار لا تزال آخذة في التشكل، حيث يعيش السلفيون بين واقع ثورة تفرض عليهم الانخراط فيها بأفكار جديدة، وثورة واقع يتطلب منهم ترتيبات تجعلهم في قلب هذا الواقع، لا بعيدين عنه، أو مستبعدين منه.