** باقر النجار
يبلغ عمر التجربة البحرينية السياسية الجديدة 12 سنة، بدأت في عام 2002، واستمرت منذ ذلك الوقت بين شد وجذب بين قوى المعارضة والنظام. وقد غابت المعارضة عنها لنحو الـ7 سنوات؛ 4 منها كانت في الدور التشريعي الأول مع بداية التجربة في عام 2002 تحت مبرر تعديلات دستورية بأطر غير دستورية، فكان مطلبها في ذلك الحين العودة لدستور عام 1973، ثم عادت وانسحبت لأكثر من 3 سنوات من الفصل التشريعي الثالث، منذ مارس (آذار) عام 2011 حتى الآن، احتجاجا على الإجراءات التي تبنتها الدولة بعد فض الاعتصامات التي قادتها المعارضة في ذلك الوقت. وهي قد قررت أن تقاطع الانتخابات البرلمانية بدعوى أنها تجري في أجواء لا تلبي مطلبها في الإصلاح السياسي، وأن المبادئ الـ5 التي طرحها ولي العهد الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، قد حملت مبادئ مبهمة ودون سقوفها في حكومة منتخبة.
ومسألة المقاطعة للانتخابات الشرعية رغم أنها حق سياسي للقوى الفاعلة في العملية السياسية، فإن الكثير من فعل المقاطعة لم يخرج بنتائج مهمة للقوى المقاطعة، بمعنى أن فعل المقاطعة يُخرجُ القوى السياسية المعارضة من مجال تأثيري مهم، حتى وإنْ كان محدودا، كما أن دفع الضرر كما يقولون، كان يتطلب منها الدخول أكثر منه الخروج من العملية السياسية. وأعتقد أن قرار المقاطعة للانتخابات كان القرار الأسهل لعدة أسباب بعضها قد يكون متعلقا بالتنظيمات السياسية ذاتها ومحاولتها المحافظة على قدر من التماسك الداخلي بين تشكيلاتها المختلفة، ولربما بعض من حواضنها الاجتماعية وبعضها الآخر متعلق بمحاولاتها المحافظة على تحالفاتها السياسية مع القوى الأخرى المعارضة أو الأكثر تشددا. وفي منطقتنا بشكل عام فإن العملية السياسية لا تتم في جلها في أطرها المؤسساتية، وإنما تتضافر في صياغتها معطيات ومستويات أخرى بعضها يتم داخل الأطر المؤسساتية، وبعضها الآخر يتم من خلال مستويات غير رسمية داخل المجتمع بتداخلها بالمستويات الاجتماعية والاقتصادية، ولربما الثقافية المختلفة التي يُتيحها لها حضورها السياسي المؤسساتي. فالكثير من الإجراءات والقرارات والسياسات التي تهم المجتمع أو تلك التي تعني بعضا من قطاعاته قد لا تتم هي في جلها في داخل البرلمان، إلا أنها تتم صياغتها والتأثير عليها في دوائر رسمية وهياكل إدارية ومن خلال شبكات اجتماعية متداخلة، وأن الخروج من العملية السياسية والاعتماد على التأثير الخارجي من خلال الشارع يفقد هذه القوى ليس فقط القدرة على التأثير، وإنما يفقد شارعها الصغير أو الكبير مواقع مهمة في العملية السياسية، بل قد يفقده قدرا من المنافع تتحقق من خلال الاندماج في العملية السياسية لا الخروج منها. وهذا يعني أن الغياب المؤسساتي يقود حتما إلى قدر من الغياب المؤثر عن هذه المستويات الرسمية وغير الرسمية، بل إن قدرة بعض من المستويات غير الرسمية على التفاعل الرسمي معها وبفعل هذا الغياب يبدو مستحيلا، بل غير ممكن. وكما يقول المفكر الكويتي محمد الرميحي: «إنك لا تستطيع أن تؤثر في نتائج اللعبة وأنت خارج الملعب مهما كان صوتك عاليا، وحتى تكون مؤثرا عليك أن تكون داخل الملعب» («الشرق الأوسط» 17 نوفمبر الحالي).
ثم إن تجربة المقاطعة السياسية لقوى المعارضة الأردنية على مدى السنوات الماضية قد أضعفت من حضورها السياسي وقدراتها التأثيرية في القرار الرسمي، كما في القطاعات الاجتماعية غير الرسمية. وبالمثل، يمكن القول إن مقاطعة قوى المعارضة الكويتية للبرلمان الكويتي قد أضعف من قدرتها الاستقطابية والتأثيرية على القرار الرسمي، كما هو فيما يخص جماعات دوائرها الانتخابية. كما أن قدرة النظام في كلا البلدين على تبني سياسات جديدة نحو المجتمع الممثل لهذه التنظيمات السياسية قد قاد هو الآخر إلى ضعف الالتفاف الذي تحظى به هذه القوى في دوائرها الانتخابية التي بدا يسودها قدر من التململ من غياب قوة مؤثرة وتحمل رؤية وبرنامجا إصلاحيا.. فمجلس عام 2014 كما يبدو من المرشحين لانتخاباته، ستدخله وجوه في جلها جديدة، بعضها لم يخبر في حياته العمل السياسي أو الاهتمام به، وبعضها الآخر كان مدفوعا بتلك المنافع الاجتماعية، ولربما المالية التي يتيحها الجلوس على مقعده.
وما يجب أن نشير إليه ولربما نذكر به، أننا ننتمي لمنطقة محافظة من الناحية السياسية والاجتماعية وهي في ذلك تتحرك بحذر شديد وبخطوات محسوبة في العملية السياسية أو في عملياتها السياسية الداخلية والخارجية. وهي في ذلك لا تريد أن تفقد قدراتها التأثيرية الداخلية أو قدرتها على ضبط المسار الداخلي، فأمامها تجارب حروب أهلية ودمار طال دولا ومجتمعات لا ترغب بأي صورة من الصور أن يمتد إليها.
ومع ذلك، فإنه مهما كانت نتيجة الانتخابات القادمة، وإن أيا من القوى التي يمكن أن تصل إليه، فإن أمامنا مجموعة من التحديات بعض يخص الحكومة ذاتها، وبعضها الآخر يخص البرلمان والشخصيات الداخلة فيه. فنحن أمام تحديات اجتماعية لا بد من التفكير الجدي بها في المرحلة القادمة، سواء أكان ذلك بوجود المعارضة أم بخروجها، لتجاوز حالة الاستقطاب المذهبي من خلال تبني برامج تأهيلية تخص كل الجماعات والمستويات دونها لا نستطيع تجاوز هذا المشكل الذي يأتي في تمثُلات ورموز بعضها بائن ومعلن، وبعضها الآخر مستتر. كما أننا نواجه معضلا سياسيا يتمثل ليس فقط في قدرتنا على تبني حلول غير تقليدية لمعضلاتنا السياسية، وإنما في أن نعزز وندفع نحو تأسيس جديد وغير ظرفي للمواطنة، وطرق جديدة لعمليات الإدماج في العمليات السياسية، وهو عمل يتطلب مصفوفة من الإجراءات والمبادرات السياسية النوعية والتشريعات القانونية والفعل الثقافي الجديد. كما أننا أمام خيارات للبناء المؤسسي الجديد ننزع فيه نحو قدر من الإنجاز الإداري والوظيفي النوعي على صعيد الأجهزة والمؤسسات الخدمية المترهلة أو على صعيد المؤسسات والشركات المختلطة وفي القطاع الخاص الذي بات متأثرا في بعض من قطاعاته بكثير من قيم الأداء السائدة في القطاع الرسمي، نتجاوز من خلاله حالات الوهن والضعف في الأداء الوظيفي وفي اختيار قياداته الذي بات المعطى الذاتي سلاحها الوحيد في الصعود الإداري.
وختاما، فإننا نقول: إن الكثير من الحلول أو إمكانيات الحلول في الدول الصغيرة تتأثر بدرجة كبيرة بمحيطها الإقليمي الأكثر قربا وتأثيرا وهي في حلولها لا يمكن أن تخرج عن تلك الحلول التي يمكن أن يجيزها الإقليم أو تلك التي قد تسبب لها قدرا من الاهتزاز لأنماط فعلها السياسي في صناعة القرار أو تلك التي تبتعد كثيرا عن ثقافتها السياسية.
--------------------------
* نقلا عن الشرق الأوسط اللندنية، الأحد، 23/11/2014.
رابط دائم: