للوهلة الأولى تبدو إسرائيل بمثابة الرابح الأكبر، أو الدولة الأكثر استقراراً، بعد ثورات «الربيع العربي»، فقد تحطّمت جيوش عربية عدّة، وتعاني مجتمعات المشرق العربي من اضطرابات مهولة، قد لا تتعافى منها إلا بعد زمن طويل.
بيد أن هذه الفرضية تثير التساؤل، ولا تبشر بشيء يقيني، بالنسبة الى مستقبل إسرائيل في منطقة تعيش على رمال متحركة، وتبدو حبلى بتغيرات عاصفة، في خرائطها السياسية والجغرافية والبشرية. مثلاً، بالنسبة إلى الجيوش، فقد تبيّن أنها لا تشكّل مصدر تهديد لإسرائيل إذ تكشّف أنها لم تصنع من أجل مواجهتها، وإنما لحماية النظم القائمة، وضمنها السيطرة على المجتمعات، وحراسة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي السائد. أما اضطرابات المشرق العربي فلا أحد يستطيع التكهّن إلى أين يمكن ان تصل، أو ما هي الآفاق التي يمكن أن تفتحها، وما تأثير ذلك في إسرائيل، أو في طبيعة وجودها في هذه المنطقة.
وفي الحقيقة، فإن إسرائيل منذ قيامها، قبل أكثر من ستة عقود، ما كانت تخشى المواجهات العسكرية، أولاً، بواقع تفوّقها العسكري. وثانياً، بحكم احتكارها السلاح النووي، أو سلاح «يوم القيامة» وفق تعبيراتها. وثالثاً، باعتبارها تحظى بضمانة الدول الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة، لأمنها واستقرارها. في هذا الإطار، ربما يفيد أن نعرف أن حجم الخسائر البشرية التي تكبّدتها إسرائيل منذ قيامها، لم يتعدّ 30 ألف شخص، ضمنهم حوالى سبعة آلاف في حرب 1948، وثلاثة آلاف في حرب 1973، وهو عدد ضئيل جداً، بالقياس الى الضحايا الفلسطينيين والعرب في الحروب ضد إسرائيل، أو الى الضحايا اللبنانيين والسوريين والعراقيين في الثورات او الحروب الأهلية. وخلال كل تلك الحروب، فإن إسرائيل لم تشهد خراباً في عمرانها، ولا خسائر اقتصادية موجعة أو مؤثّرة في بناها التحتية، بالمقدار الذي شهدته مدن لبنان وسورية والعراق والضفة وغزة. كما أن كل تلك الحروب والمواجهات التي دخلت اسرائيل غمارها لم تغير من معادلات الصراع القائمة، فهي لم تهدد نظامها السياسي او استقرارها الاجتماعي، او نموها الاقتصادي، ومستوى رفاهية مجتمعها، كما لم تهدد تفوقها العسكري.
مع ذلك، ثمة لإسرائيل مخاوف، أكبر وأعقد وأعمق من كل ذلك، أي من مصادر التهديد التقليدية، فهي من الأساس لديها هذا النوع من الوعي بالخطر الوجودي، وهو وعي لا يتأتّى من الاخطار الأمنية او الاقتصادية او القلاقل الاجتماعية، وانما هو وعي ذاتي ساكن في الثقافة والتجربة التاريخية، والإحساس المزمن بالقلق من الآتي، ما يفسّر خشية قادة إسرائيل على دولتهم ومجتمعهم ومستقبلهم، حتى من السلطة الفلسطينية، وحتى من اتفاق أوسلو، على رغم الاجحافات التي يتضمنها هذا الاتفاق بحق الفلسطينيين.
وربما يفيد التنويه هنا بأننا لسنا إزاء قضية تشبه قضية إرلندا، او قضية الالزاس واللورين مثلاً، ولا إزاء تجربة تشبه التجربة الاستعمارية الاستيطانية الفرنسية في الجزائر، وحتى انها لا تتماثل مع التجربة الأقرب، أي تجربة الاستعمار الاستيطاني العنصري في جنوب افريقيا. فالمستوطنون البيض في هذا البلد لم يأتوا بادعاءات ايديولوجية/دينية، ولا ادّعوا انهم «شعب الله المختار»، ولا أن هذه «ارض الميعاد»، ولم يشتغلوا على تهجير السكان الأصليين، ما يفسّر، في ما بعد، المصالحة التاريخية التي حصلت. القصد أن ثمة مشكلة وجودية لإسرائيل في هذه المنطقة، مع مقاومة، شعبية أو مسلحة أو من دون ذلك، وبغض النظر عن طبيعة علاقات إسرائيل مع العالم العربي، عدائية كانت او تعايشية.
أيضاً، ثمة قائمة من التهديدات الاستراتيجية التي تواجهها إسرائيل، على الصعيد المستقبلي، تأتي ضمنها التصدعات الداخلية العميقة، والمؤثرة، ذات المحتوى الثقافي، التي تحدد ادراكات الإسرائيليين وتعريفهم لأنفسهم، والتي تنحو نحو الازدياد. يأتي ضمن ذلك الشقاق بين المتدينين والعلمانيين، إذ لم تعد إسرائيل تعد بمثابة «واحة» علمانية، او حداثية، في شرق أوسط متديّن او متخلف، وفق ترويجها، ودعايتها عن نفسها منذ قيامها. كما ثمة الانقسام الطائفي، أو القبلي (وفق رأي بعض علماء الاجتماع الإسرائيليين) بين الشرقيين والغربيين والروس. وهؤلاء برزوا كمعطى جديد، جاء مع موجات الهجرة من دول الاتحاد السوفياتي (السابق) في التسعينات، وبات لهم دور كبير في السياسة الإسرائيلية، لا سيما انهم يميلون الى اليمين القومي المتطرف والاستيطان ونبذ التسوية.
في قائمة التهديدات هذه، يأتي «خطر السلام»، وفق تعبير المحلل الإسرائيلي شمعون شيفر («يديعوت اخرونوت»، 25/4/2014). وقد يجد البعض في ذلك مبالغة، بالنظر الى الشبهات المحيطة بعملية التسوية، ومنهج القيادة الفلسطينية في هذا الخصوص. لكن هذا وذاك، لا يفسّران مصرع اسحق رابين (1995)، والانشقاقات حول هذا الموضوع، وتملص حكومات إسرائيل (العمل وليكود وكاديما) حتى من اتفاقات أوسلو المجحفة والمذلة والناقصة. فمن وجهة النظر الإسرائيلية، فإن عملية التسوية تهدد هوية الدولة التي تأسست على كونها غريبة وعلى شكل «غيتو» في المنطقة، وقد ارتكزت هذه الهوية على قصة الصراع على الوجود، وأن إسرائيل محاطة بأعداء. أيضاً، تخشى إسرائيل أن تؤدي عملية السلام الى حرمانها طابعها وفرادتها كدولة يهودية، وبالتالي ضياع مكانتها بين يهود العالم. وفوق كل ذلك، ثمة ادراك بأن عملية التسوية لا تنتزع من إسرائيل أراضي فقط، وإنما تنتزع منها مبرر وجودها الأخلاقي، وتقوض شرعيتها في الوجود.
أيضاً، ثمة ما تعتبره إسرائيل «الخطر الديموغرافي»، المتأتي من تزايد نسبة الفلسطينيين، وهو ما كان يشكّل «خطراً» لولا رؤيتها لذاتها كقلعة، او غيتو، على شكل دولة يهودية، وفقاً لاعتبارات ايديولوجية وعنصرية. وتنطلق إسرائيل، في ما تسمّيه خطر «القنبلة الديموغرافية»، من ادراكها محدودية العنصر البشري في تكوينها، ونضوب مصادر الهجرة اليهودية من الخارج، وأيضاً من تراجع صورتها، واهتزاز مكانتها في التجمعات اليهودية في الغرب، ولا سيما في الولايات المتحدة، التي تنافسها على مكانتها كتجمع لليهود، مع توفيرها حالة استقرار وأمان لهم أكثر بكثير من إسرائيل، التي تدّعي انها قامت لإيجاد ملاذ آمن لهم.
فضلاً عن كل ذلك ثمة، اليوم، ثلاثة أخطار أو تحديات استراتيجية جديدة باتت تواجه إسرائيل في المستقبل المنظور، أولها ناجم عن انكفاء الدور الأميركي في العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط، إذ إن هذا التغيّر سيؤثر سلباً في مكانة إسرائيل، بهذا المقدار او ذاك، وهي التي طالما اعتمدت في تفوقها وضمان أمنها وتغطية سياساتها في المنطقة، على مكانتها كحليف استراتيجي للولايات المتحدة. وثانيها، ناجم عما تسمّيه إسرائيل تصاعد مسار نزع الشرعية عنها، وهو ما يتمثل بتحول الرأي العام في الدول الغربية عن مساندة إسرائيل، وتزايد نزعة انتقادها، لمصلحة التعاطف مع حقوق الفلسطينيين، وهو مسار يشق طريقه في أوساط النخب الأكاديمية والطالبية والثقافية والفنية في الولايات المتحدة ذاتها، وفي أوساط الجيل الجديد من اليهود الشباب فيها. وقد بدأ ذلك مع الانتفاضة الشعبية الأولى، وتعزّز نتيجة صلف إسرائيل وسياساتها المتعنتة، المتمثلة باستمرار الاعمال الاستيطانية، والتملص من استحقاقات التسوية، وتصاعد أكثر مع انكشافها كدولة استعمارية وعنصرية وعدوانية، لا سيما بعد الحروب الثلاث التي شنّتها على غزة (2008 و 2012 و2014). وهذا المسار هو الذي نجم عنه الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة (كعضو مراقب)، واعتراف البرلمان البريطاني بحق الفلسطينيين في دولة، ودعوة دول كثيرة الى ترجمة ذلك ومن بينها السويد وفرنسا، مثلاً. أما المصدر الثالث للتهديد، فهو التغيرات الحاصلة في المجتمعات المحيطة بإسرائيل، وهي تغيرات لا احد يستطيع التكهن بطبيعتها، لكن الأكيد فيها أنها غيّرت البيئة الأمنية التي تعودت عليها إسرائيل منذ عقود، وأن المجتمعات العربية باتت أكثر وعياً لدورها وحقوقها، وأن هذه المنطقة على أي نحو رست ستؤثّر في إسرائيل، وستقرّر في شكل وجودها وفي مصيرها.
* كاتب فلسطيني
-------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، 28/10/2014.
رابط دائم: