رغم ما ردده مفكرون وسياسيون من أن القرن الحادي والعشرين سيطغي عليه الدين، وسيشهد صعودا لافتا في المشاعر الروحية، يبدو أن القرن الحالي سيكون قرن الرياضة المعولمة بامتياز. فالرياضة، وليس الدين، تحولت إلي ساحة المواجهة الأولي بين الدول، وهي مواجهة تجرى وفقا لقواعد سلمية بعيدة عن الدمار والنار.
فالعالم يشهد تزايدا ملحوظا في أهمية الألعاب الرياضية، وفي القلب منها رياضة كرة القدم، بوصفها الرياضة الأكثر شعبية في العالم، حيث أصبح تنظيم الأحداث الرياضية الكبري، وعلي رأسها دورة الألعاب الأوليمبية، وبطولة كأس العالم، مجالا للتنافس الدولي. إذ لم يعد خافيا الدور الذي تلعبه المنافسات الرياضية المختلفة في رفع الأعلام الوطنية للدول، وتسجيل الحضور القوي والفاعل في نظر الآخرين. فرغم الطابع الرمزي لتنظيم بطولة كأس العالم، ودورة الألعاب الأوليمبية، واقتصاره علي التنافس الرياضي، فإنها فرصة لا تعوض لدول العالم لاستعراض تفوقها في جميع المجالات، والتباهي بمدي التقدم الذي وصلت إليه. وخلافا لما يقال، فإن الرهانات الاقتصادية ليست هي الأهم. صحيح أنها موجودة، وتؤخذ في عين الحسبان، ولكن المكانة التي تتبوؤها المدينة والبلد المستضيفان لأي من هذين الحدثين الرياضيين الكبيرين، والامتياز المتمثل في أن يصبحا محط أنظار العالم خلالهما، حيث يحظيان بأكبر تغطية إعلامية في العالم، هما الأهم. فالرياضة أضحت عالميا جزءا لا يتجزأ من القوة الناعمة للدول، يتداخل فيها السياسي، والرياضي، والتجاري، والصناعي، والنفوذ المالي والإعلامي، وإلا لما تسابقت الدول لاستضافة المناسبات الرياضية.
أولا- الرياضة والسياسة:
تشدد اللجنة الدولية الأوليمبية دائما علي أنه لا ينبغي خلط الرياضة بالسياسة، بل إن هذا المبدأ يمثل بندا أساسيا من بنود الميثاق الأوليمبي. ولكن الألعاب الأوليمبية باتت تكتسي أهمية كبيرة إلي حد يستحيل معه اختزالها في بعدها الرياضي فقط، وهذا صحيح منذ عودة الألعاب في شكلها الحديث. ذلك أنه عندما أراد الفرنسي "بيير دو كوبيرتان" إعادة تأسيس الألعاب الأوليمبية في العصر الحديث (1896)، كان لديه في الواقع هدف سياسي، هو الإسهام في تهدئة العلاقات الدولية، عبر السماح للرياضة بالتقريب بين الشعوب والدول. ومن اختيار البلد الذي يستضيف الألعاب الأوليمبية، إلي تحديد الدول التي تستطيع التنافس في الألعاب، كانت قرارات اللجنة الأوليمبية الدولية مدموغة دائما بطابع السياسة. علي سبيل المثال، تم استبعاد ألمانيا المنهزمة من الألعاب الأوليمبية، بعد الحرب العالمية الأولي. ومن أجل السماح بإعادة إدماجها ضمن المجتمع الدولي، منحت في عام 1931 شرف تنظيم ألعاب برلين .1936 في غضون ذلك، تمكن هتلر من الوصول إلي السلطة، واستعمل الدورة الأوليمبية كوسيلة دعاية للنظام النازي. وابتداء من 1952، شارك الاتحاد السوفيتي في الألعاب الأوليمبية، التي كثيرا ما ندد بها الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، بحسبانها ألعابا "برجوازية"(1). وبعد أن فازت موسكو بتنظيم الدورة الأوليمبية 1980، تسبب الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979 في انسحاب الولايات المتحدة، ومعظم دول أوروبا الغربية من دورة موسكو. ورد السوفيت، ومعهم الدول الشرقية، بعد أربعة أعوام، بمقاطعة دورة لوس أنجلوس الأوليمبية عام 1984(2). وقبلها، انسحب العرب جميعا من دورة ميونيخ الأوليمبية عام 1972، بعد انطلاقها، بسبب أحداث مصرع 11 إسرائيليا في القرية الأوليمبية بأيدي فدائيين فلسطينيين. كما انسحبت دول إفريقية عديدة من تصفيات كأس العالم لسنوات طويلة، احتجاجا علي مشاركة إسرائيل في تصفياتها، أو عدم منح مقعد خاص للقارة في النهائيات. وبدأت مقاطعة جنوب إفريقيا، إبان فترة التمييز العنصري، بالمحافل الرياضية. وفقط بعد إنهاء التمييز، سمح لجنوب إفريقيا بالمشاركة من جديد في دورة الألعاب الأوليمبية ببرشلونة في 1992(3). وانتزعت جنوب إفريقيا تنظيم كأس العالم 2010، تقديرا لقائدها نيلسون مانديلا كشخصية ذات احترام وتقدير علي الصعيد العالمي فيما بدا مكافأة من "الفيفا" لجنوب إفريقيا علي إنجازاتها السياسية التي حققها مانديلا باجتياز مرحلة الفصل العنصري دون عنف، والوصول إلي مصالحة بين أطياف المجتمع المختلفة دون إراقة الدماء(4).
ومن خلال منح بكين شرف تنظيم الألعاب الأوليمبية عام 2008، ثم ريودي جانيرو عام 2016، تكون اللجنة الأوليمبية الدولية قد احترمت التعدد القطبي للعالم ودعمته. وبهذا المعني، فإن اللجنة الدولية الأوليمبية أرادت أن تتلافي اتهامها بانتهاج خط محافظ جيو- سياسي. كما أن الرئيس البرازيلي السابق، لويس لولا دا سيلفا، واللاعب بيليه، الشهير بالجوهرة السوداء، لعبا دورا بالغ الأهمية في تأمين فوز بلدهما بشرف تنظيم ألعاب 2016(5).
وينطوي منح قطر (البلد الصغير بسكانه البالغ عددهم نحو مليون نسمة) حق استضافة كأس العالم 2022 علي أبعاد جيو- سياسية وحضارية. ذلك أنه حتي الآن، لم يسبق لأي بلد عربي أو مسلم أن نظم كأس العالم لكرة القدم، أو الألعاب الأوليمبية. وبالتالي، تعد تلك الخطوة اختيارا جريئا من الفيفا، وإشارة قوية من شأنها أن تجعل كرة القدم في خدمة مكافحة صدام الحضارات(6).
ثانيا- كرة القدم والعولمة:
ثمة علاقة جدلية بين الرياضة والعولمة. فهذه الأخيرة التي تقلص الزمن، وتقرب المسافات، ساعدت في صعود الرياضة بتسليط الأضواء عليها، ونقلها إعلاميا (وبكثافة) إلي داخل البيوت، فيما أسهمت الرياضة من جانبها في تعميق تفاعلات العولمة، وتكريس دينامياتها، مع الحرص في الوقت نفسه علي إسباغ وجه إنساني علي تجلياتها. وفي الواقع، فإن لفظ المونديال نفسه هو أكبر تجسيد للعولمة، فالتسمية تأتي نسبة إلي "العالم" باللغة الفرنسية "La
Monde" وبالإسبانية “El Mondo".
ليس غريبا، في ظل الشعبية الطاغية لكرة القدم، أن يصل عدد الدول الأعضاء في الاتحاد الدولي لكرة القدم الـ "فيفا" إلي 208 دول، متفوقا علي منظمة الأمم المتحدة، والتي يبلغ أعضاؤها 192 دولة. وفيما تحظي جميع قواعد "الفيفا" وقراراتها بالاحترام، تظل العديد من القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة حبرا علي ورق، بل كثيرا ما يتم تجاهلها من قبل الدول والقوي العالمية. وفي الوقت الذي تجمع فيه "الفيفا" بين الصين، وتايوان، وإسرائيل، وفلسطين، لم تستطع الأمم المتحدة القيام بذلك، وإرغام الخصوم والأعداء علي التعايش. وقد اعترف كوفي أنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، قبيل كأس العالم 2006، بأن المنظمة التي يقودها تنظر بعين الغيرة لكأس العالم بحسبانه القمة "التي تشهد اللعبة الوحيدة العالمية التي يشارك فيها جميع الأعراق والأديان". والحقيقة أن كرة القدم تحولت إلي النموذج المثالي للعولمة، بل هي ملعبها الأول. فمن بين كل رموز العولمة، تظل كرة القدم الأكثر انتشارا، والأكثر تمثيلا للقرية العالمية التي تحدث عنها عالم الاجتماع الكندي "مارشال ماكلوهان". فرغم وجود عدد من المفاهيم والأفكار المعولمة، مثل الديمقراطية، والإنترنت، والاقتصاد الحر، فإن أيا منها لا يحظي بالإجماع الدولي، والانتشار منقطع النظير الذي تتمتع به كرة القدم، بعدما اخترقت الحدود، وأذابت الفوارق
العرقية، واللغوية، والدينية، وحشدت المجتمعات وراء منتخباتها. ورغم تعدد المرجعيات الثقافية لسكان العالم، سواء كانوا في طوكيو، أو لندن، أو نيروبي، فإن كرة القدم وحدت الأذواق، وجعلت من نجوم كرة القدم شخصيات عالمية معروفة، بحيث تفوقوا في شعبيتهم وحضورهم علي القادة السياسيين، ونجوم هوليود(13). وأول ما يلفت النظر في هذا الصدد هو الحراك العالمي الضخم بين اللاعبين، ليس فقط من فريق إلي آخر، بل من قارة إلي أخري. فالفريق في دول شمال أوروبا ذات البشرة البيضاء الصارخة، والشعر الأصفر، والعيون الزرق، لم يعد كذلك بالمرة، بل هو الآن مطعم بذوي البشرة الزيتونية من شمال إفريقيا، وكذلك البشرة السوداء الداكنة من دول جنوب الصحراء الكبري في القارة الإفريقية. بل إن عددا من اللاعبين يلعبون كشركاء في النادي الأوروبي نفسه، قبل أن يكونوا منافسين في المونديال، ويدافعون عن علم دولة ليست دولتهم الأصلية. وهذا الحراك اللاعبين علي المستوي العالمي هو أسرع حراك يوجد حاليا، فهو يتم في بعض الأحيان خلال أسابيع، إن لم يكن أيام(14).
وبطولة الدوري الإنجليزي لكرة القدم تكاد تكون منحصرة في فريقي "مانشيستر سيتي"، و"مانشيستر يونايتد"، اللذين يتنافسان علي الظفر بالدوري الإنجليزي، حيث لم تعد شهرتهما منحصرة داخل التراب الإنجليزي، بل أصبح المتابعون للدوري الإنجليزي، والمتعطشون لمتابعة مبارياته منتشرين في جميع أنحاء العالم ضمن صفوف عشاق الرياضة. والأكثر من ذلك أن الفريقين تملكهما جهات خارج إنجلترا. إذ كما هو معروف، تعود ملكية "مانشيستر سيتي" إلي الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، وهو من حكام دولة الإمارات، فيما ترجع ملكية الفريق الآخر إلي مستثمرين من الولايات المتحدة. والأمر لا يقتصر علي الفرق الإنجليزية التي صارت مفتوحة أمام الاستثمارات العالمية، بل امتدت إلي فرق أخري أوروبية، وعلي رأسها فريق "باريس سان جيرمان" الذي اشتراه صندوق استثماري قطري أوائل عام .2012 وأصبح فريق باريس سان جيرمان النموذج الأفضل للعولمة بتجلياتها الواضحة، فالفريق يملكه قطري، فيما المدرب إيطالي، واللاعبون من أصول مختلفة. أما الهوية، فهي فرنسية(15).
ويمكن أيضا الحديث عن "هجرة الأقدام"، علي غرار هجرة الأدمغة التي تفرغ البلدان النامية من خيرة أبنائها، لكن ذلك لن يستمر طويلا، في ظل التحولات العالمية المستجدة، وما يستتبع ذلك من تأثير لا مفر منه في رياضة كرة القدم. ففي الوقت الذي يتراجع فيه الغرب استراتيجيا، وتبرز فيه قوي عالمية جديدة علي الصعيد الاقتصادي، لم تعد الأندية الأوروبية والأمريكية هي وحدها من تستقطب اللاعبين. فإذا كانت الفرق الإفريقية لا تزال تعتمد علي المحترفين في الأندية الأوروبية، فإن البطولة الإفريقية تبقي نفسها مثيرة للانتباه، وأصبحت أكثر حضورا وتتبعا في وسائل الإعلام الدولية، وهو ما يغري اللاعبين والفرق بإظهار أفضل ما لديها في تلك البطولة. كما أن التغير المهم الذي تشهده أمريكا اللاتينية، وبروز البرازيل والأرجنتين علي الساحة الدولية، كقوتين اقتصاديتين، دفعا العديد من لاعبيها المحترفين في الخارج إلي التفكير في العودة للعب مع الفرق المحلية، لاسيما أن هذه الأخيرة باتت أكثر غني واحترافية. بل حتي في بعض البلدان غير المعروفة بكرة القدم صارت، بحكم واقعها الجديد، أكثر اهتماما باللعبة. فالصين، علي سبيل المثال، تسعي إلي تطوير اللعبة محليا، إذ لا يعقل أن تكون الصين قوة عالمية، وتظل غائبة عن ميادين الرياضة الأكثر شعبية في العالم. كما أن الهند التي لا تعد دولة رياضية، وتقتصر
اهتماماتها علي لعبة الكريكيت، قررت عام 2012 تأسيس دوري احترافي لكرة القدم. وهكذا، أضحت جميع دول العالم واعية بدور كرة القدم في تعزيز إشعاعها عالميا، بعدما تحولت إلي لعبة معولمة تتابعها شعوب الأرض كافة(16).
وفيما يشكو البعض من تداعيات العولمة، مثل طمسها الهويات الخاصة، وتنميطها العالم والثقافات، وفقا لمعايير موحدة تنفي الخصوصية والتميز، تأتي الرياضة لتعيد اللُّحمة الغائبة مجددا إلي النسيج العالمي، وتُرجع للهويات الوطنية قيمتها علي الساحة الدولية. وفي عالم لا تزال فيه أوجه المنافسة بين الدول قائمة علي أكثر من صعيد، تحولت الرياضة إلي ذلك الحصن الأخير، والقلعة المنيعة التي تسمح بممارسة لعبة الهوية، والتعصب لها أحيانا، دون تداعيات سياسية أو اجتماعية، كما في الصراعات الجيو-سياسية. وقد باتت الرياضة أيضا البديل عن القوة الصلبة التي سادت في القرن الماضي، بحسبانها وسيلة الصراع بين الدول، لتتحول اليوم إلي مجال القوة الناعمة التي تحتل فيها صورة البلد مكانة أهم، وتتبوأ فيها الرياضة رمزية خاصة، بوصفها أداة لتلميع الصورة وإبرازها.
ويضاف إلي ذلك أن الرياضة، بألقها الدولي الذي تسبغه علي الدول والنجوم، باتت تتجاوز الحدود الوطنية، والهويات الضيقة. فالرياضة أصبحت تحتل مكان المشترك الذي يوحد اهتمامات الرأي العام الدولي، وأضحي الجميع، أينما كانوا حول العالم، يتابعون التظاهرة ذاتها، ويتسقطون أخبار اللاعبين والنجوم أنفسهم. أما اللاعبون، فقد تحولوا في القرية الكونية التي بات عليها العالم إلي نجوم لا يكاد يجهلهم أحد، بل تفوقوا في هذا المجال علي
السياسيين. فالجميع تقريبا سمع باسم كريستيانو رونالدو، لكن القليلين فقط منا يعرفون اسم رئيس الوزراء البرتغالي! ومن منا أيضا يتذكر اسم الرئيس البرازيلي في عام 1970، عندما عقدت كأس العالم في المكسيك؟، لكن في المقابل يظل اسم بيليه محفورا في الذاكرة، ويأبي النسيان. وإذا كان السياسيون يثيرون جدلا بين الرأي العام، ويتوزع الناس بين احترامهم تارة، واحتقارهم تارة أخري، فيما لا يحظي الكتاب والمفكرون سوي بمتابعة محدودة، ويسبقهم في ذلك بعض الفنانين المشهورين، فإن لاعبي كرة القدم يبقون الأكثر متابعة في العالم. فنسبة الذين يدمنون مشاهدة كرة القدم، أو أي رياضة أخري، تفوق متابعي السياسة، وهي في تزايد مستمر بفضل اتساع رقعة وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي التي قربت الرياضة، وأذاعتها علي نطاق واسع(17).
ثالثا- السياسة في مونديال 2014:
في المونديال الأخير الذي استضافته البرازيل هذا العام (2014)، استمر اقتران السياسة بالبطولة التي دفعت رؤساء الدول والحكومات للتحول إلي مشجعين لمنتخبات بلادهم، ومساندة اللاعبين في أكبر حدث رياضي عالمي. وليس أدل علي ذلك من تعويل الرئيسة البرازيلية، ديلما روسيف (التي وصفت نفسها بـ "المشجعة الأولي" لمنتخب بلادها) علي فوز البرازيل بالبطولة، من أجل تعزيز رصيدها الشعبي، قبل الانتخابات الرئاسية في أكتوبر الجاري، خصوصا أن الدولة واجهت حملة كبيرة من الانتقادات، إضافة إلي الإضرابات والتظاهرات بسبب إنفاقها نحو 13 مليار دولار علي استضافة كأس العالم، فيما تئن غالبية الشعب تحت وطأة الفقر والبطالة. وكان الرئيس البرازيلي السابق، لولا دا سيلفا، يري أن تنظيم كأس العالم في بلاده أحد إنجازاته(18).
لكن ما حدث أن المزاج الشعبي العام تحول من تأييد استضافة المونديال والزهو به إلي تحفظ، ثم استياء، ثم غضب شعبي تجسد في تظاهرات ومواجهات مع الشرطة. والسبب في ذلك هو التأثيرات السلبية لارتفاع تكاليف استضافة المونديال، حيث تجاوز الإنفاق الفعلي الميزانية المحددة سلفا لإنشاء الملاعب الاثني عشر التي بنيت أو أعيد بناؤها خصيصا لهذا الحدث، مما أدي إلي إلغاء أو تأجيل عديد من المشروعات الحضرية والخدمية التي وعدت الحكومة بتنفيذها. وخلال كأس القارات لكرة القدم التي أقيمت عام 2013، وهي حدث يهدف إلي الإحماء استعدادا للمونديال، خرج ما يزيد علي مليون شخص إلي الشوارع في أكبر احتجاجات شهدها هذا الجيل. وكانت الجماهير تطالب بأن يصبح بناء المدارس والمستشفيات علي المستوي نفسه الذي تقام عليه الملاعب، تلبية لمعايير الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا). بل إن منتخب البرازيل نفسه لقي معاملة سيئة من قبل المتظاهرين، وامتلأت جوانب الحافلة الفاخرة التي تقل اللاعبين بملصقات تدعو إلي تخصيص المزيد من الأموال للمدارس(19).
ثم جاءت هزيمة المنتخب البرازيلي، وعجزه عن الفوز بالبطولة، لتعمق البعد السياسي في البطولة، وتزيد من أعباء الدولة. وهناك تداعيات سياسية مهمة مرتبطة بالمونديال ومجرياته، وذلك علي مستويين، الأول وطني عام، والثاني والأخير سياسي يتعلق بمقعد الرئاسة:
1- المقارنة بماراكانا 1950: المرة الأخيرة التي احتضنت فيها البرازيل بطولة كأس العالم كانت عام 1950، وكان للهزيمة المفاجئة في تلك البطولة أصداء وطنية، وليست فقط رياضية. ومنذ ذلك الحين، وعلي الرغم من فوز البرازيل بأكبر عدد من ألقاب كأس العالم، فإن الحشد الشعبي والسياسي لبطولة 2014 تعلق في جانب كبير منه بمحاولة البرازيليين التخلص من عقدة الهزيمة في ماراكانا.1950 من هنا كانت الصدمة كبيرة في بطولة كان يؤمل أن تمحو ذلك الحدث المؤلم في تاريخ البرازيل الرياضي والوطني، فإذا بها تنتهي إلي هزيمة أخري، وألم أعمق.
2- مصير رئيسة البرازيل: رغم تصدرها نتائج استطلاعات الرأي، ليس مستغربا أن تتأثر حظوظ الرئيسة ديلما روسيف في الانتخابات المقررة في أكتوبر الجاري. إذ إن بقاء روسيف في منصبها لفترة جديدة يحدده قرار شعبي، سيتأثر حتما بالحصيلة الهزيلة للمنتخب في البطولة المنظمة علي أرضه. والهزيمة لم تتسبب في انخفاض شعبية روسيف، لكنها جاءت لتعمقها. فطيلة فترة البطولة، كانت الهتافات المناوئة لروسيف تملأ ملاعب المباريات. وبعد أن كانت أغلبية البرازيليين قبل سنوات قليلة يؤيدون بشدة تنظيم بطولة كأس العالم، بحلول يونيو 2014، انحدرت نسبة التأييد إلي النصف، وهي نسبة متدنية للغاية بين الجماهير الأكثر تحمسا للعبة كرة القدم علي مستوي العالم. وعندما سعت الحكومة البرازيلية للاستفادة من تنظيم كأس العالم، كانت تأمل في أن يساعد
انتصارها في البطولة علي تعزيز وزيادة الرضا الشعبي عن الحكومة، ويهدئ المحتجين الغاضبين، مما يعدونه إنفاقا ضائعا، وعجزا حكوميا عن النهوض بمستوي مرافق وخدمات أهم، مثل البني التحتية، والرعاية الصحية، والتعليم. ويلمح خصوم روسيف، ومنهم بعض الخبراء الاقتصاديين البارزين، إلي أن هزيمتها في الانتخابات قد تمثل نعمة بالنسبة لاقتصاد البلاد(20).
فوفقا لبعض التحليلات، فإن صعود البرازيل لم يكن آمنا، كما تصور زعماؤها. ففي عام 2011، تعثر الاقتصاد، ولا يزال يعاني الركود، وتوقف نمو الطبقة المتوسطة الدنيا، خاصة مع تفاقم الديون الاستهلاكية، وحمّل البرازيليون روسيف مسئولية ذلك التعثر. ففي يونيو الماضي (2014)، تسببت زيادة بسيطة في رسوم النقل العام في ساو باولو في اندلاع موجة احتجاجات في مختلف أنحاء البلاد، وأبدي المواطنون سخطا شديدا إزاء سوء الخدمات العامة التي تقدمها حكومة تفرض أعلي معدلات ضريبية في أمريكا اللاتينية(21).
الهوامش :
(1) باسكال بونيفاس، الألعاب الأوليمبية .. خلط السياسة بالرياضة، الاتحاد، الأربعاء 25 يوليو 2012، علي الرابط:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.phpid=67110
(2) د. علاء صادق، الرياضة والسياسة .. مصالح مشتركة وحب مفقود، الجزيرة نت، الأحد 3 أكتوبر 2004، علي الرابط:
http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/3/10/2004/الرياضة-والسياسة-مصالح-مشتركة-وحب-مفقود.
(3) باسكال بونيفاس، الألعاب الأوليمبية .. خلط السياسة بالرياضة، مصدر سابق.
(4) باسكال بونيفاس، كأس العالم.. تجميل الصورة الإفريقية، الاتحاد، الثلاثاء 25 مايو 2010، علي الرابط:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.phpid=52729
(5) باسكال بونيفاس، أوليمبياد ريودي جانيرو .. بداية الصعود البرازيلي، الاتحاد، الثلاثاء 13 أكتوبر 2009، علي الرابط:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.phpid=48624
(6) باسكال بونيفاس، الفيفا.. هل تكافح صدام الحضارات؟، الاتحاد، الثلاثاء 9 نوفمبر 2010، علي الرابط:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.phpid=55771
(7) جيفري كمب، ما بعد مونديال البرازيل .. قطر وبلاتر!، الاتحاد، الجمعة 18 يوليو 2014، علي الرابط:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.phpid=80245
(8) باسكال بونيفاس، الألعاب الأوليمبية .. رهانات الأمن والسياسة، الاتحاد، الجمعة 17 يناير 2014:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.phpid=76934
(9) بهجت قرني، المونديال والعولمة.. ما الجديد؟، الاتحاد، الجمعة 1 أغسطس 2014، علي الرابط:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.phpid=80463
(10) باسكال بونيفاس، كرة القدم .. لعبة معولمة، الاتحاد، الثلاثاء 7 فبراير 2012، علي الرابط:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.phpid=64028
(11) باسكال بونيفاس، كيف تفوق الفيفا علي الأمم المتحدة؟، الاتحاد، الثلاثاء 22 يونيو 2010، علي الرابط:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.phpid=53253
(12) باسكال بونيفاس، كرة القدم .. الإمبراطورية الأعظم، الاتحاد، الثلاثاء 10 يونيو 2014:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.phpid=79574
(13) باسكال بونيفاس، كيف تفوق الفيفا علي الأمم المتحدة؟، مصدر سابق.
(14) بهجت قرني، المونديال والعولمة .. ما الجديد؟، مصدر سابق.
(15) باسكال بونيفاس، كرة القدم .. لعبة معولمة، مصدر سابق.
(16) باسكال بونيفاس، كرة القدم .. المصدر السابق.
(17) باسكال بونيفاس، الرياضة .. ساحة للتدافع الجيو- سياسي، الاتحاد، الخميس 29 مايو 2014، علي الرابط:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.phpid=79352
(18) مارك مارجوليس، البرازيل .. تذمر من معايير المونديال!، الاتحاد، السبت 7 يونيو 2014، علي الرابط:
http://www.alittihad.ae/details.phpid=50379&y=2014&article=full
(19) طارق بانجا، فاتورة المونديال .. تثير الغضب في ريو، الاتحاد، الاثنين 2 يونيو 2014:
http://www.alittihad.ae/details.phpid=48741&y=2014&article=full
(20) إيشان ثرور، هزيمة كروية .. كارثة وطنية في البرازيل، الاتحاد، السبت 12 يوليو 2014:
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.phpid=80149
(21) خورخي كاستانيدا، أحزان كأس العالم، الجزيرة نت، الأحد 29 يونيو 2014:
http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/29/6/2014/أحزان-كأس-العالم