حظيت ملفات السياسة الخارجية في الانتخابات الرئاسية التركية بحضور لافت، وهى حالة غير معتادة، ليس بسبب أن الرئيس كان يختار تقليديا من قبل البرلمان بمقتضى الدستور فحسب، وإنما لارتباط ذلك بكون الرئيس الجديد الذي انتخب مباشرة عبر الشعب في العاشر من أغسطس 2014، هو رجب طيب أردوغان، والذي يعد الأكثر نفوذا في النظام السياسي التركي. فلقد وظف أردوغان قضايا السياسة الخارجية في حملاته الانتخابية وخطاباته المحلية من أجل زيادة شعبيته، وتعزيز شرعيته، وذلك كإحدى الأدوات الرئيسية للاستمرار في السلطة منذ 12 عاما.
وعلى الرغم من أن رئاسة الجمهورية في تركيا تتمتع بصلاحيات رمزية، فإن أردوغان يسعى بعد فوزه لتحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، بحيث تتمركز أغلب الصلاحيات التنفيذية في قبضته. كما يسعى إلى ربط ذلك بسيطرة حزب العدالة والتنمية على السلطة، من خلال دعم ترشيح وزير الخارجية أحمد داود أوغلو خليفة له في رئاسة الحكومة والحزب، بما يعطي مؤشرا دالا على رغبة أردوغان في أن يظل محركا رئيسيا لتوجهات السياسة الخارجية التركية، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات عدة بشأن مسارات التبدل والتغير في علاقات تركيا مع الدول العربية خلال المراحل اللاحقة.
التوظيف الانتخابي للقضايا الخارجية
بدا واضحا، من خلال إستراتيجية إدارة الحملة الانتخابية من قبل أردوغان، أنه سعى جاهدا لتوظيف قضايا السياسة الخارجية لخدمة مشروعه المحلى، وقد برز في هذا الإطار، قضية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي وظفه سياسيا لمحاولة تأكيد مناصرة أنقرة للقضية الفلسطينية، ومعارضتها للمواقف العربية، محاولا عزل القيادة المصرية، من خلال التنسيق مع قطر لطرح مقترحات لوقف النار في غزة تتجاوز المبادرة المصرية للتهدئة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل.
حاول أردوغان توظيف هذه القضية لتعبئة الطاقات المحلية، وشحذها لدعمه في الانتخابات، أخذا في الحسبان تنامي النزعة المحافظة في المجتمع التركي، الذي يتعاطف تلقائيا وتاريخيا مع القضية الفلسطينية.
وقد كانت قضية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي القاسم المشترك في العديد من الخطب التي ألقاها أردوغان في مدن تركيا المختلفة، منددا بمواقف منافسه في انتخابات الرئاسة أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام السابق لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والذي تعرض لاتهامات من أردوغان وأنصاره بأنه يسعى إلى موقف تركي محايد حيال تطورات القضية الفلسطينية. في المقابل طالب أوغلو منافسه أردوغان بالتخلي عن وسام "الشجاعة اليهودي" الذي منحته له عام 2005 إحدى المنظمات اليهودية في نيويورك.
واستفاد أردوغان من دعم أقطاب جماعة الإخوان المسلمين لحملته الانتخابية ، إذ تسابق كل من يوسف القرضاوي، وراشد الغنوشي في الدعوة لانتخاب أردوغان، على أساس أن في ذلك نصرة ورفعا للمظلومية عن تيارات الإسلام السياسي. وقال الغنوشي إنه حال نجاح أردوغان سيشكل صدا لموجة "الردة عن الحرية" في المنطقة بعد الثورات.
جاء ذلك في وقت تبارت فيه القنوات الإعلامية "الإخوانية"، التي تبث الغالبية العظمى منها من تركيا، للإشادة بمواقف أردوغان السياسية، وتفاعله مع القضايا الإقليمية، بما عكس اصطفافا إقليميا/ أيديولوجيا، جعل الانتخابات الرئاسية التركية كأنها حدث إقليمي، وليس محض إجراء تركي محلي، وذلك دعما لأردوغان الذي أعلن- عقب فوزه بالانتخابات مباشرة- أن وصوله لمنصب رئيس تركيا لا يمثل انتصارا للأتراك، وإنما لجميع الدول الشقيقة والصديقة.
وعلى الرغم من محدودية تأثير الرئيس التركي في صوغ ملامح توجهات السياسة الخارجية التركية، فإن تصريحات أردوغان، وأهدافه من مركزية السلطة بين رحى يديه، رغم الانتقال إلى قصر تشانقيا الرئاسي، فضلا عن محاولة تصوير الانتصار الانتخابي لأردوغان، بحسبانه إعادة تموضع لتيارات الإسلامي في المنطقة، إنما توضح أن العلاقات التركية – العربية سيتحدد نمطها وطبيعتها بمقدار تشابك أردوغان مع ملفات هذه العلاقات وقضاياها.
توجهات ثابتة
ترتبط السياسة الخارجية التركية ارتباطا وثيقا بالسياسات المحلية، ونمط وطبيعة توجهات نظام الحكم القائم، وأولوياته، وأهدافه على الساحتين الإقليمية والدولية. وبالتالي، فإن استمرار حضور أردوغان في المشهد السياسي عبر الرئاسة يعد تكريسا للتوجهات الخارجية لتركيا تجاه المنطقة، إن لم يكن تصعيدا للتوتر مع بعض البلدان الإقليمية، كمصر، والسعودية، والإمارات، وثبات التوجهات الخاصة بتوثيق العلاقات مع كل من قطر وإيران، وجماعات الإسلام السياسي كجماعة الإخوان المسلمين، وحركة حماس، فضلا عن بعض التيارات الأصولية في العراق وسوريا. وفي المقابل، فإن ابتعاد أردوغان عن ملفات السياسة الخارجية قد يدفع بحدوث تحولات في مسار هذه السياسة.
الثابت في هذا الإطار أن الإعلان عن "المجلس الثوري المصري" بقيادات "إخوانية" في اسطنبول، في الثامن من أغسطس الماضي، واتهام محمود جبريل، رئيس وزراء ليبيا الأسبق، لتركيا وقطر بتسليح مليشيات ليبية، فضلا عن الاحتفاء التركي بذكرى فض ميدان "رابعة" والنهضة" بعد ثورة 30 يونيو.. كل ذلك يضاعف من احتمالات أن تتمتع سياسات تركيا الخارجية بدرجة كبيرة من الثبات، خلال المرحلة المقبلة.
إن هذا الثبات سيغدو نسبيا، ويرتبط بمقدار التبدل في المعادلة السياسية القائمة داخل تركيا، وسيواجه بتحديات تتعلق من ناحية بموقع أردوغان الجديد كرئيس للجمهورية، وبانغماسه من ناحية أخرى في التطورات المحلية، والاستعداد للانتخابات البرلمانية المقبلة، والتي تعد الأهم كونها ستحدد مسار طموحات رجل تركيا القوي في الانتقال للنظام الرئاسي.
ومع ذلك، فمن المرجح أيضا أن وزير الخارجية الجديد الذي سيخلف داود أوغلو لن يستطيع التحرك بعيدا عن ثوابت أردوغان وسياساته، وسينتقل "العقل المفكر" من وزارة الخارجية إلى رئاسة الوزراء التي ستعني بالتنسيق مع رئاسة الجمهورية بشأن أية مبادرات حيال ملفات الصراع الإقليمي. وفيما ستعنى رئاسة الجمهورية أكثر بتطورات الشأن المحلي، فإن رئاسة الوزراء ستعنى بدرجة كبيرة بملفات التوتر الإقليمي، حال ما تم بالفعل اختيار داود أوغلو لرئاسة الحكومة التركية.
ومن المستبعد حدوث تحول كبير في دوائر حركة السياسة الخارجية التركية، والتي سيكون مجالها الحيوي منطقة الشرق الأوسط، وهى في هذا الإطار ستتغاضى قصدا عن تباين الرؤى مع إيران حيال بعض القضايا الإقليمية، وستسعى إلى تحقيق تنسيق أكبر مع قطر، وفق منطق الضرورات السياسية الاقتصادية، وذلك مع احتمال تصاعد التوتر مع كل من مصر، والسعودية، والإمارات. وستواجه تركيا محاولات دول الخليج ومصر لعزل قطر عن تركيا، وقد يكون ذلك أحد محاور التجاذبات الإقليمية بين الجانبين.
تغيرات محتملة
في مواجهة هذه المعطيات، ثمة متغيرات قد تؤثر على نمط السياسة الخارجية لتشهد تحولات خلال المرحلة المقبلة، سترتبط بأن السياسة الخارجية التي أفضت إلى انخراط تركيا في العديد من الصراعات الإقليمية لن تحظى بتوافق كامل داخل الحزب الحاكم، وذلك بعد انتقال رجل الحزب القوى إلى قصر تشانقيا بأنقرة، بما سيحد من قدرته على فرض إدارته وسياساته على جميع أعضاء الحزب. كما أن داود أوغلو بحسبانه المرشح الأوفر حظا لقيادة " العدالة والتنمية" بعد أردوغان سيواجه أزمة في شرعيته داخل الحزب، خاصة مع حداثة انضمامه، إذا ما قورن بمؤسسي الحزب الآخرين كعبد الله جول، وبولنت أرنيج.
وعلى جانب آخر، فإن الحزب سيشهد أدوارا معارضة لسياسات تركيا الخارجية من قبل شخصيات سبق أن اعتلت منصب وزير الخارجية، خلال حكم العدالة والتنمية نفسه، كعبد الله جول، وعلى باباكان، ومن الممكن أن ينضم إليهما يشار يكيش.قد يفضى ذلك إلى حدوث صراعات داخل الحزب قد تدفع بتشكيل جبهة معارضة بداخله، أو نزوع لتشكيل حزب سياسي جديد، انطلاقا من أن سياسات أردوغان-أوغلو لم تسهم في تصفير المشكلات مع دول الجوار بقدر ما خلقت وعمقت مشكلات جديدة.
كما ستشكل العلاقات المصرية- التركية أحد محاور الصراعات الداخلية في تركيا، انطلاقا من تصاعد الدور الإقليمي لمصر بالتنسيق مع دول خليجية، ومحاولة حصار تركيا، والتوجه المصري لدعم العلاقات مع روسيا، العدو التاريخي لأنقرة، وهو ما سيعنى أن الحضور الإقليمي المصري سيكون له ظهير عربي ودولي، سيما مع بداية تبلور ملامح تحول في مواقف القوى الغربية من مصر، ودعم مبادراتها للتهدئة بين حماس وإسرائيل.
ويمكن القول: إن التفاعل بين جملة الثوابت والمتغيرات على الساحة السياسية الداخلية في تركيا سيحدد معالم سياستها الخارجية. فكلما نجح أردوغان في ترسيخ ثوابت دوره في صنع قرارات السياسة الخارجية، كان من المرجح أن تستمر حالات التوتر في العلاقات التركية الإقليمية، إن لم تتصاعد. وكلما تصاعدت المتغيرات في المشهد التركي الداخلي، سواء على الساحة المحلية، أو داخل الحزب الحاكم لجهة تحجيم دور أردوغان، برزت توجهات تركية خارجية مغايرة قد تدفع بالتهدئة مع الفاعلين الإقليميين.