«حلُّ النزاع الإسرائيلي الفلسطيني عن طريق نقل الدولة اليهودية إلى أحضان الولايات المتحدة، والإسرائيليون أحب الناس للأميركيين، الذين سيأخذونهم بالأحضان، ولدى أميركا الكثير من الأرض تتسع لإقامة الولاية الأميركية 51 إسرائيل، ويمكن لإسرائيل أن تنشئ دولة يهودية آمنة فعلا محاطة بولايات صديقة، ولن يكون على الأميركيين أن ينفقوا 3 مليارات دولار من أموال دافعي الضرائب سنوياً للدفاع عن إسرائيل، وسيكلف نقل إسرائيل أقل من نفقات ثلاث سنوات للدفاع عنها. وسيستعيد الفلسطينيون أرضهم، وحياتهم، ويصبح الشرق الأوسط آمناً من جديد، ودون تدخلات أجنبية. وتنخفض أسعار النفط، والتضخم، ويسعد العالمُ كلُه». كتب ذلك الموسيقار الإسرائيلي، وعازف الساكسفون المشهور «جيلاد أتزمون» في موقعه على الإنترنت، وأرفق اقتراحه بخريطة «بلاده»، التي بدت كدبوس صغير في صدرية الولايات المتحدة الطويلة العريضة.
و«لا تعزف على الساكسفون، بل دعه يعزف عليك». هكذا تعامل أتزمون مع النزاع الإسرائيلي العربي، منذ فتح عينيه في القدس على جده الصهيوني المتطرف، العضو السابق في عصابة «أرغون» الإرهابية. يروي أتزمون ذلك في كتابه «التائِهُ مَنْ؟»، وفيه يستعير أسطورة «اليهودي التائه» الذي كُتب عليه الشتات كفارةً عن ذنب «إعدام» المسيح. وشتات أتزمون بدأ عندما سمع لأول مرة موسيقى الجاز قبيل التحاقه، وهو في عمر 17 عاماً، بالخدمة الإلزامية بالجيش الإسرائيلي. وبعد يومين اشترى أول آلة ساكسفون، وشرع بتعلم العزف عليها ليلا نهاراً، وأدرك أن لا شيء يربط عازفي الساكسفون الأميركيين السود بنشأته اليهودية المتمحورة على نفسها، وانتهت أسطورة أن كل شيء جيد مصدره اليهود. «آنذاك ربما تخليتُ عن فكرة كوني من الشعب المختار وأصبحتُ كائناً بشرياً اعتيادياً».
وخلال عشر سنوات التالية سيكتشف أتزمون، فيما هو يعزف على الساكسفون، أن الأرض التي يعيش عليها للفلسطينيين، وأنهم خلافاً لما يُشاع لم يتركوا أرضهم، بل أُبعدوا عنها بالقوة. وعندما كان مجنداً بالقوة الإسرائيلية التي اجتاحت لبنان عام 1982، تَعرّف في أسرى «معسكر الأنصار» على فلسطينيي المقاومة المختلفين عمّن عرفهم من فلسطينيي القدس «المسالمين المطيعين». ومع انعقاد مؤتمر أوسلو عام 1984 طفح به الكيلُ، حسب تعبيره، وأدرك أن «صنع السلام الإسرائيلي» لم يكن هدفه المصالحة مع الفلسطينيين، أو مجابهة «الخطيئة» الصهيونية الأصلية، بل الإمعان في ضمان أمن إسرائيل على حساب الفلسطينيين. و«شالوم» بالنسبة لمعظم الإسرائيليين «ليس السلام بل الأمن، ولليهود فقط»، و«لا حق بالعودة للفلسطينيين». وتَرَك كل شيء وراءه، ورحل لدراسة الدكتوراه في الفلسفة في لندن، ولم يأخذ معه سوى آلة الساكسفون، التي سيصبح أحد أشهر عازفيها في أوروبا.
وبعد عشر سنوات من الشتات فاجأه شعور طاغ بالحنين للبيت، ليس لإسرائيل، إنما إلى شارع «يفيت» في يافا، حيث «يُباع أحسن حمص بِطحينة في العالم، وحيث تمتد القرى الفلسطينية على التلال، وسط أشجار الزيتون». وكلما اهتاج حنينه إلى فلسطين يذهب إلى شارع «أجور رود» في لندن، حيث المطاعم اللبنانية، و«هذا كان أقرب مكان إلى بلدي»، وفيه سيكتشف ما فاته اكتشافه في إسرائيل؛ الموسيقى العربية والغناء الفلسطيني.
و«إذا أردتَ آلة موسيقية تغني، فاعزف على الساكسفون. إنها الصوت البشري في أحسن أحواله». وبالصوت البشري، وهو في أحسن أحواله تعلّم أتزمون الإنصات للموسيقى العربية، و«عبر الموسيقى، وخصوصاً عبر صراعي الشخصي مع الموسيقى العربية، تعلمتُ أن أنصت، بدلاً من النظر في التاريخ، أو تحليل تطوره بمصطلحات مادية»، وعرف أن «الإنصات قلب الإدراك العميق، والمُشرع الأخلاقي، وعندما تكون العين مغلقة، تستطيع أصداء الوعي أن تشكل نغمة في روح الشخص. وكي نتعاطف علينا أن نقبل بأولوية الأُذُن».
ويبحث أتزمون أكاديمياً عما تعنيه كلمة «يهودي»، ويذكر أنه الموضوع «المُحرّم الذي لا يجرؤ أي مُعلِّق على معالجته». ويذكر أن هناك ثلاثة أنواع من اليهود؛ أولا أتباع الديانة اليهودية، وثانياً من كانت أصوله من عائلة يهودية، والنوع الثالث الذي يأتي منه الشر يهود يضعون يهوديتهم فوق كل شيء آخر، ولا يعترفون بوجود يهودي أميركي، أو بريطاني، أو فرنسي، بل يهودي يعيش في أميركا أو فرنسا أو بريطانيا. ويورد أتزمون معلومات موثقة عن هؤلاء اليهود، الذين يشكلون «الصهيونية العالمية» التي تعتبر كل يهودي إسرائيلياً حتى إذا لم يأت إلى إسرائيل، «ويُستحسن في حالات معينة البقاء حيث هم»، مثل «بول ولفوفيتز»، مهندس الحرب التي دمرت العراق «القوة الوحيدة الباقية ضد إسرائيل».
وطريق أتزمون إلى الشتات اليهودي أقل تعقيداً من طريق «إيلي حبيبة شاحوط»، أستاذة دراسات الشرق الأوسط في جامعة نيويورك، ومؤلفة عشرات الكتب والدراسات المترجمة إلى جميع اللغات العالمية. أخذت «حبيبه» عن جدتها العراقية اسمها ورفضها المطلق لإسرائيل. وكانت جدتها التي اضطرت للنزوح من بغداد إلى إسرائيل مع أبنائها وأحفادها عام 1951، تنظر باستغراب إلى اليهود القادمين من أوروبا، وتسأل باللهجة البغدادية اليهودية: «من وين هذول؟». وتوفيت الجدة والجد (أبو الياهو) رافضَين تَعلّم كلمة عبرية واحدة.
وصعقتني قصة حياة «حبيبة» عندما قرأت لأول مرة مقالتها الضارية في مجلة «ميدل إيست ريفيو» ضد تدمير العراق في حرب الخليج عام 1992، وذَكَرت فيها أن العراق كان من أرحم البلدان باليهود، وإسرائيل أسوأهم. وأوردت تفاصيل اضطهاد يهود العراق في إسرائيل، والتي حَرّمت عليهم استخدام أسمائهم العربية، والتحدث بالعربية. و«تَذَكُرُ بغداد في مكان آخر» عنوان حديث «حبيبه» خريف عام 2012 في «غاليري سربيتن» في لندن، وفيه رسمت ما تسميه «خارطة الرحلة العاطفية» من العراق إلى فلسطين، وإلى الولايات المتحدة. وتساءلتْ : «هل تحتَّم علي، أنا العربية اليهودية أن أنتهي إلى الكتابة بالإنجليزية عن الشقاق اللغوي الذي عشته بين العبرية والعربية؟». وروت تفاصيل مهانتها المؤلمة، وهي طفلة عليها أن تنسى العربية، وتتقن العبرية الأوروبية، فقالت: «عاش كثير من العراقيين حياتهم في إسرائيل يتوقون إلى تذكرة عودة لا رجعة فيها، ليس إلى المكان، بل الأحرى إلى الزمان، الذي لن يعود».
ولم يتخلّ العراقيون الذين كان معظمهم يعيش في بلدة «بتاح تيكفا» عن لغتهم العربية «التي تعبر عن جميع العواطف حولي، ولغة الموسيقى التي أسمعها، والأغاني التي نرقص لها، ولغة السوق المأهولة بالباعة العراقيين، ولغة الأحاديث الشخصية في المعبد اليهودي، ولغة الأخبار التي نسمعها من الراديو والتلفزيون الناطقين بالعربية، ولغة أم كلثوم التي يحرص الجميع على سماع حفلاتها الشهرية. والعربية لغة تنويمة جدتي، وهي تضع رأسي في حضنها «دِلِلول دلِلول»، ولغة قصص جدّنا، التي يبدأها دائماً بعبارة «كان يا ما كان».
-------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الخميس 14/8/2014.
رابط دائم: