يقتبس الكثيرون لأحد كتّاب العرب الأقدمين الذي قال إن «عشر سنين من ظلم الحاكم أفضل من غياب هذا الحاكم وسيطرة الفوضى»، كما أن عالِم الاجتماع العربي الفذ عبدالرحمن بن خلدون كتب في القرن الخامس عشر ليدين ما أسماه «العرب» -وكان يقصد بهم أعراب البدو- لأنهم يهددون المدن ومراكز الاستقرار عبر غزواتهم غير المنضبطة، وفي الإطار نفسه تقريباً كتب الصديق عبدالمنعم سعيد -أعاده الله لمصر بكامل الشفاء والعافية- أحد مقالاته بعنوان «حبيبتي الدولة».
مآسي المنطقة العربية حالياً، لا سيما بعد انهيار نظم الحكم السلطوية شديدة الدموية، مثل نظام صدام حسين في العراق ونظام علي عبدالله صالح في اليمن ونظام القذافي في ليبيا، هذه المآسي هي من الشدة بحيث تدفع البعض إلى الاشتياق وبقوة إلى نقيض الوضع الحالي، أي ما يعتقدونه حضور الدولة بعد انهيار وطول غياب.
وفي الواقع، فإن من أهم النظريات في العلوم السياسية هي نظرية الدولة، خاصة في صورتها الأصلية كما تبلورت في بداية القرن السابع عشر على يد مؤسسها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز. فقد طوّر هوبز نظريته في إطار الظروف التي عاشتها إنجلترا في القرن السادس عشر، عقب فوضى سياسية شبيهة بما يحدث في بعض الأقطار العربية الآن، حيث كانت إنجلترا مبتلاة بحرب أهلية دخلت إثرها إلى سيل من المنازعات والصراعات بين الجماعات المختلفة في مجتمع يعاني التفكك والتمزق، وهي الحالة التي اعتبرها هوبز نوعاً من «حرب الجميع ضد الجميع»، أي الفوضى الشاملة وعدم الأمان على طول الخط.
وفي مثل هذا الوضع المأسوي، فإن أهم احتياجات الإنسان -مهما كان توجهه العقائدي- تبقى حماية نفسه وأسرته من قانون الغاب، وبالتالي حاجته إلى «وحش» -وهو عنوان كتاب هوبز حول الدولة- شديد الافتراس وذي قوة ضخمة يستطيع بها أن يخيف الآخرين، وبالتالي يفرض إرادته عبر نوع من النظام في الحياة اليومية. وبالطبع، فإن ذلك هو النظام كما رآه هوبز في سياق مرحلته قبل أربعة قرون من الآن.
وحتى في ذلك الزمن البعيد، تم انتقاد هوبز ونظريته من جانب زملائه الفلاسفة في إنجلترا مثل جون لوك، وكان من أهم الانتقادات الموجهة إلى هوبز كونه أهمل كليةً المجتمع الذي يحاول إنقاذه، وبدلاً من أن يحاول بناء نظرية تأخذ في الاعتبار مصالح هذا المجتمع في الأمان الذي تبغيه معظم هذه الفئات -باستثناءات قليلة- فإنه هو نفسه أصبح جزءاً لا يتجزأ من قانون الغاب هذا، إذ أصبح كل أمله أن يبحث عن الوحش الكاسر الذي قد لا يقتصر على أكل الوحوش الأخرى فقط، بل أيضاً يُخيف الجميع ويقضي على كل من يخالف إرادته.. بمعنى آخر وبترجمة هذا النقد في معانٍ معاصرة، فإن نظرية هوبز تؤسس للحكم السلطوي الوحشي، أي تأسيس سلطة هي على عداء تام مع المجتمع وتنظر إلى غالبيته على أنه مصدر تهديد يجب احتواؤه، بل والقضاء عليه. فقد أبدلت هذه النظرية وضع «حرب الجميع ضد الجميع» قبل ظهور وتدعيم هذا الوحش الكاسر الذي يُجسد السلطة الحاكمة، بحرب أخرى ترتكز فيها السلطة إذا لم تكن الدولة نفسها في حرب مع المجتمع، وهو ليس بوضع أفضل بالمرة، حتى من ناحية تحقيق الأمن نفسه، لأن تكاليفه باهظة ونتائجه غير مضمونة في نهاية المطاف.
ولذلك فقد تم تطوير نظرية هوبز لكي يصبح الأمن المطلوب أماناً، أي العمل مع الآخر الذي له الاحتياجات نفسها في القضاء على عدم الاستقرار والفوضى، وليس العمل ضده على طول الخط، بما يزيد من عدد الخصوم دون أن يساعد في استتباب الأمن، ناهيك عن تحقيق الأمان، وهو الفرق بين نظرية الدولة كوحش كاسر ونظرية الدولة كسلطة نزيهة وحَكم موضوعي فوق الجميع، بالضبط كالحكَم الذي نراه في مباريات كرة القدم والذي بنزاهته وموضوعيته يضمن تطبيق القواعد وسير المباراة في طريقها لصالح الفريق الأفضل بين متعة وتشجيع غالبية الحاضرين.
كيف يفيدنا هذا النقاش في إلقاء الضوء على ما يحدث في مصر والمنطقة العربية حالياً؟
الدولة ليست فقط السلطة والأوامر، ولكن تقديم الخدمة والمساعدة، وهي ليست فقط ما يسمى «الأمنجية»، ولكنها أيضاً الدعم والتأييد، وهي ليست فقط بناء السجون، ولكنها أيضاً بناء المدارس والمستشفيات.. هذه هي السلطة الحقيقية التي تضمن الأمن، بأن تجعل الجماهير شركاء فعليين في حماية أمنهم وحياتهم اليومية، لكي يخف العبء عن السلطة وتصبح أكثر كفاءة في القيام بمهماتها، الأمنية والخدمية. ليست هناك حاجة إذن إلى دولة هوبز ووحشها الكاسر، ولكن ثمة حاجة إلى الدولة الذكية التي تتماشى مع تكنولوجيا ومعايير القرن الحادي والعشرين.
-------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الأربعاء، 6/8/2014.
رابط دائم: