الإفراط في التدمير "الإسرائيلي" في غزّة ال2014 وغزّة ال2008 ولبنان ال2006 طعمه مختلف يعكس الضيق النفسي الذي يكبّل "إسرائيل" بعد انزلاقها من سياسة الهجوم الى السقوط في فجوة الدفاع . المشكلة الأساسية التي على "إسرائيل" واليهود في العالم والحركة الصهيونية، خاصةً، مجابهتها، إن أرادوا الاحتفاظ بوجودهم، قائمة في الإجابة عن السؤالين التاليين: بأيّة دولة نأمل؟ وما هو شكل هذه الدولة؟ مع ضرورة مقارنة الإجابات مع الواقع "الإسرائيلي" كما تطوّر منذ نكبة فلسطين . السؤال الأساسي الأكثر تحديداً الذي لا بدّ من طرحه على أنفسهم هو: هل نجحنا في تأسيس دولة شبيهة بكلّ دول العالم الأخرى، أم أنّنا نطمح دائماً الى منحها طابعاً فريداً واستثنائياً مطابقاً لما هو عليه تاريخنا المزعج لأمم الأرض والمرفوض جهراً أو سرّاً أو همساً ويقاس بمدى قبضنا على الزناد في مفاصل السلطة والقرار في العالم؟
الغرض الأساسي من هذه الأسئلة هو أن "إسرائيل" عاجزة عن أن تكون دولة مشابهة للدول الأخرى ولهذا تصبح فرصها قليلة في البقاء . وسيكون من الصعب جدّاً عليها كجزيرة مفقودة معادية وسط العالم العربي والإسلامي وكجسم غريب معاد أن تندمج في عالم الشرق الأوسط الشديد التعقيد . لن يبقى لها سوى خيارين: إمّا التكيّف في علاقاتها مع العالم الخارجي وتحولاته وسياستها مع أجيال العرب الجديدة تحديداً فتصبح محطّة تابعة للعالم العربي، وإمّا البقاء مستقلة في سياساتها الخارجية بحيث يستمرّ قبولها وتمازجها مع محيطها مستحيلاً، وهذا يعني أنّ مشكلتها الأساسية تكمن في تحولها نحو البقاء والدفاع تجاه أية فكرة أو محاولة تدميرية من الخارج .
قد يؤجّل هذا التفكير، ما دام للعالم غير اليهودي وللقوى العظمى مصلحة في بقاء "إسرائيل"، ولكن لا يستطيع أحد الجزم، ما إذا كان الوضع سيتغيّر في المستقبل، مما يؤشّر على بداية النهاية ل"إسرائيل" . وحتى ولو استبعدنا كل محاولة تدميرية فإنّ ضرورة تكريسها لمجهودها الأساسي للدفاع القائم أساساً على الهجوم، سيثير أزمة وراء أزمة إذ لا يمكن لشعبٍ أن يستمرّ في التاريخ على قاعدة الهجوم الى الأبد . ستتحوّل الى أرض رخوة محظورة بالنسبة الى شعبها في العالم، وستكون مجموعة إمكاناتها وطاقاتها وقدراتها محتكرة للدفاع وهي لن تكون مقصداً نهائياً للشعب اليهودي كما توخّت الفكرة الصهيونية . هذا يعني أنّ مصالح اليهود في "إسرائيل" هي إلى انحسار وستكتشف الأجيال الكثيرة المتلاحقة التي تمركزت هناك وكان همّها مساعدة "إسرائيل" في تفادي الهزائم المنتظرة، أنّها دولة لا يمكن الاستفادة الفكرية من وجودها أو انّها لا يمكن إلاّ أن تفقد ضمان بقائها تدريجياً .
لم تحلّ "إسرائيل" المشكلة اليهودية التاريخية، بل عقّدتها أكثر على المستويين: خارجياً لم تتمكن من محو الأخطار اللاسامية بل أذكتها واستجلبت بسياستها الهجومية على مختلف المستويات مواقف لا سامية وبشكلٍ عنيف ضدّ الصهيونية المرفوضة، وداخلياً لم يعدّل وجودها أو يحسّن من الخطر الأكبر الذي يهدّدها بسبب تجذّر بشرها في أوطان العالم وتشتتهم بالزواج المختلط المتنامي، والغياب الكامل للمفكرين اليهود الجدد الذين يتراجع تأثرهم وتأثيرهم إيجابياً ب"إسرائيل" كما عند نشوئها .
وإذا لم يعقد أي سلام حقيقي أو لم تتوفّر أية إمكانية لقبول "إسرائيل" كليّاً من محيطها، فستتدهور الحالة وستضعف من سنة الى أخرى ومن جيل الى جيل . وهذا ناتج، عن حدثين أغفلتهما الفكرة الصهيونية من قبل هما: التشبث بالإبادة النازية الجماعية كحافز تجمّع وشحن أوّلاً والحروب "الإسرائيلية" التي تفتن بالإبادة التعويضية في فلسطين أو مع البلاد العربية . وفي النتيجة لا أمر ضرورياً لبقاء "إسرائيل" سوى اعتراف "الإسرائيليين" والمجموعات اليهودية في العالم، بأنّ العمل الأساسي هو تخطّي نتائج هذين الحدثين اللذين ارتدّا وسيرتدّان أكثر عليها في المستقبل . المظهر الأكثر سلبية لوضع "إسرائيل" الراهن، ليس قصر النظر ولا التصلّب في السياسة الخارجية ولا تدهور الوفاء للفكرة الصهيونية وحسب، بل تفرّغها للقوّة العسكرية وهو الذي سيؤدّي الى تغييرات جذرية وسلبية في النفسية "الإسرائيلية" . الصهيونية عبارة سلبية جدّاً في وقعها العالمي، وكبار الشخصيات والشباب باتوا يتوقون لتقليد القادة وأصحاب الملايين والفساد والفضائح والانحرافات المتجسّدة في حقائق الحياة "الإسرائيلية" . قد تكون الحياة في "إسرائيل" مختلفة تماماً عمّا هي عليه في الدول الغربية والشرقية التي جاءوا منها، لكنّ تقديس سلوك التصلّب والتطرف وإدارة الظهر الكامل لضرورة التكيّف شرّعت الأبواب للقفز نحو الخضوع والهرب . كان اليهود يلوذون بالمرونة هرباً من الظروف الصعبة وذلك بالتخفّي أو بالصمت أو بالهجرة وهو عكس ما يدمنون عليه اليوم في "إسرائيل" في التصلب والعدائية والتطرف . لم يبق أو لم تزهو هناك حياة فكرية أو سياسية أو إبداعية لأنّ الأبطال هم العسكريون أو السياسيون المتحزبون الشاغلون كلّ حيز . وبالمقارنة مع الماضي لم تكن حياة اليهود موجّهةً لا من قبل الملوك ولا من قبل العسكريين المتفوقين ولا من قبل الأثرياء إنّما من قبل الحاخامين والكتاب والعلماء .
لقد قلبت تجربة "إسرائيل" المعادلة، وصارت مجتمعاً واقفاً خلف حقيبته وخوفه على الدوام . لن يكون هذا التطور المتراجع إلاّ بوضع حدّ للحروب المباشرة وغير المباشرة أوّلاً لأنّها حروب تجعل من كلّ تغيير أمراً مستحيلاً، ثمّ المطالبة بالحياد الذي سيصعب بدوره ويغدو مستحيلاً بسبب سلوكها وتفاقم عزلتها في العالم . صحيح أنّ صديقها الحقيقي الوحيد هو أمريكا ودروعها الصاروخية، لكن من يدري الى متى تستمرّ هذه الصداقة لأنّه لا يمكن أن يستمرّ التحالف الرحمي بين أكبر دولة وأصغر دولة في العالم إذا ما استمرّت الدولة الصغيرة تتفرّغ فقط لتهديد السلام العالمي، وللاعتداءات على الدول الأخرى أو مصدراً لإزعاج الدول الحليفة وإرباكها وعصيانها في كلّ مبادرة سلام .
في العام 1982 توفي ناحوم غولدمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، ونقلت الى العربيّة مع طلاّبي في كليّة الإعلام كتابه "ou va Israel " أي "إسرائيل" الى أين؟ وذلك لسببين أوّلهما الضجة التي أثارها الكتاب من زعماء "إسرائيل" والجاليات اليهودية في العالم لدى نشره في العام 1975 في باريس وكنت أستاذاً قارئاً في جامعة السوربون ،3 وثانيهما لليونة اللبنانيين وطلاّبي القومية في الموضوع "الإسرائيلي" وقد عشته إبّان الاجتياح وبعده .
ومن لم يكفه المقال، وشاء تلمّس تلك الرؤية أو الفجوة المنتظرة بين الصهيونية "إسرائيل" منذ 40 سنة نحيله إلى هذا الكتاب الذي يتجاوز ما كتبناه بكثير في مستقبل "إسرائيل" المفجع .
---------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الخميس، 24/7/2014.
رابط دائم: