يرتبط ذلك باستحواذ الشرائح مرتفعة الدخل على أكبر نسبة من فوائد دعم الطاقة، حيث يستند عدد من الخبراء الاقتصاديين إلى تقديرات إحصائية تؤكد أن أغنى 20% من سكان الحضر يستحوذون على 33% من دعم الطاقة مقابل 3.8%
لأفقر 20% من السكان، كما أن توزيع المستفيدين من دعم الطاقة تتصدره الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، ويتضمن فئات لا تستحق الدعم، مثل مستخدمي السيارات الخاصة، والفنادق، والمطاعم.
على مستوى آخر فإن دعم الطاقة يقوض من محفزات ترشيد الاستهلاك، سواء بالنسبة للأفراد أو الصناعات كثيفة استخدام الطاقة مثل الأسمنت والحديد والأسمدة التي تحقق أرباحًا لا تنعكس في صورة تخفيض في الأسعار نتيجة الطابع الاحتكاري غير التنافسي لإنتاج تلك السلع، ناهيك عن أن الإنفاق على دعم الطاقة يقلص من مخصصات الإنفاق على التعليم والصحة والخدمات.
على الرغم من الوفورات الاقتصادية المتحققة نظريًّا من سياسة التقشف الاقتصادي، والحد من النفقات المتبعة من جانب الحكومة المصرية، فإنها تأتي متناقضة مع المعطيات الاجتماعية في ظل ارتفاع نسبة الفقر إلى حوالي 26.3%، وتصاعد معدل البطالة ليتجاوز حوالي 13% من المواطنين وفق البيانات الرسمية؛ إذ إن التركيز المتصاعد على الإجراءات التقشفية يمثل استكمالا لتحول اقتصادي تدريجي بدأ منذ عام 1974 من نموذج دولة الرعاية المركزية التي تقوم بتوظيف الموارد لسد مختلف احتياجات المواطنين وضبط التفاوتات الاجتماعية، باتجاه نموذج نيوليبرالي يقوم على الجباية، وتعزيز كفاءة استخراج الموارد لتحقيق الاتزان الاقتصادي، مع توفير الحد الأدنى من الدعم الاقتصادي للفئات الأكثر فقرًا، والاعتماد على المجتمع المدني في الإحلال محل مساحات الفراغ الناجمة عن انسحاب الدولة، وتشمل التداعيات الاجتماعية لإجراءات التقشف ما يلي:
1- انكماش الطبقة الوسطى: تشير دراسة هنري بنين ومارك جريسوفتش حول التداعيات الاجتماعية لسياسات التقشف الاقتصادي إلى أن تكلفة سياسات خفض الإنفاق الحكومي عادةً ما تتحملها الطبقة الوسطى الحضرية، خاصة من ذوي الدخول الثابتة غير القابلة للارتفاع، بينما تعاني بعض القطاعات المجتمعية من آثار مدمرة تشمل العمالة منخفضة المهارات، والمهاجرين الجدد إلى الحضر، والشباب حديثي التخرج قليلي الخبرة، وموظفي القطاع العام، وهو ما يؤدي لاتساع شريحة الفقر في المجتمع، خاصة في المناطق الطرفية الأكثر معاناة من التهميش، وانعدام الاتزان في عوائد التنمية.
2- تصاعد التضخم: نتيجة تركز الارتفاعات الأكبر في أسعار مصادر حيوية للطاقة (مثل: السولار، والغاز الطبيعي) فمن المرجح أن تتصاعد تكلفة مختلف السلع والخدمات الأساسية، حيث تشير التقديرات الاقتصادية إلى أن معدلات التضخم قد ترتفع لنحو 13% خلال 6 أشهر بعد زيادة أسعار الوقود، يتوازى ذلك مع بوادر موجة ارتفاع أسعار، حيث أكد نقيب الصيادين بالسويس، أن أسعار بيع السمك ستزداد بنسبة تتراوح ما بين 30% إلى 50% عن سعرها الأصلي نتيجة الاعتماد الكبير على السولار في مختلف عمليات ومراحل قطاع الصيد، وهو ذات الأمر الذي أشار إليه رئيس شعبة الدواجن الذي أكد أن الأسعار سترتفع بنسبة 25%، ذات الأمر ينطبق على السلع الزراعية والحديد والأسمنت والأسمدة وقطاعات التشييد والبناء والاتصالات والنقل والمواصلات، حيث بدأت شركات النقل، التابعة لقطاع الأعمال العام، فرض زيادة رسمية على نقل السلع الغذائية الحرة بواقع 20% على الطن الواحد، ما سوف ينعكس على أسعار مختلف السلع تلقائيًّا.
3- الركود الاقتصادي: تؤثر البنية الريعية للاقتصاد المصري، واعتماده الرئيسي على الأنشطة الخدمية والصناعات التحويلية البسيطة، وافتقاده للنشاطات الإنتاجية - على قدرة القطاعات الاقتصادية على التكيف مع السياسات الانكماشية، حيث إن ارتفاعَ الأسعار، واستنزاف الدخول الثابتة للشرائح الأوسع نطاقًا من المصريين، قد تتسبب في إحجامهم عن الإنفاق الاستهلاكي، وهو ما يؤدي لانكماش سوق السلع الاستهلاكية والخدمات، وسيطرة الركود على التعاملات الاقتصادية، ومن ثمَّ التسبب في خسائر للشركات والمصانع الأقل في حجم نشاطها الاقتصادي، مما يؤدي إلى تصاعد الاحتكار، وسيطرة كبار المنتجين على قطاعات اقتصادية متعددة، مما يزيد من أثر ارتفاع الأسعار.
4- تزايد البطالة: بالإضافة لتأثير الركود على تراجع طلب القطاعات الاقتصادية المختلفة على العمالة، تدفع سياسات الانكماش الاقتصادي إلى تحول رأس المال من الصناعات المحلية المكلفة كثيفة العمالة (مثل: الصناعات الثقيلة، والنسيج) إلى الصناعات الأقل تكلفة القابلة للتصدير، ونتيجة لانخفاض قدرة العمالة على الحراك بين القطاعات الاقتصادية في مصر Intersectional Mobility من المرجح أن يؤدي التراجع في بعض القطاعات الاقتصادية إلى تصاعد في نسبة البطالة، ما لم تتدخل الحكومة لتحفيز الاستثمار من خلال تدشين مشروعات كبرى للحفاظ على مستوى الطلب على العمالة، خاصة منخفضة المهارات.
5- تصاعد مركزية القطاع الخاص: يؤدي تراجع الإنفاق الحكومي والسعي لتقليص فرص العمل بالقطاع العام؛ إلى تصاعد وزن القطاع الخاص في تحديد أسعار السلع والخدمات، وتحديد أجور العمل بما يحقق أقصى درجات الربحية، ولن تُثنِي مفردات الوطنية والتضامن والتكافل الغالبة على خطاب شاغلي السلطة في مصر، القطاعَ الخاص عن استغلال التحولات في السياسة الاقتصادية بالنظر إلى رشادة الخيارات الاقتصادية، ودافع الربح المتحكم في أنشطة مؤسساته، واتساع نطاق الاقتصاد الموازي غير الرسمي الذي لا يُمكن للحكومة التحكم في توجهاته، لأنها لا تملك بيانات كافية عن أنشطته، وهو ما يجعل تدخل الدولة لضبط توجهات القطاع الخاص أحد أهم محددات رفع العبء عن كاهل المواطنين محدودي الدخل.
محددات الحراك الاحتجاجي:
لعل التساؤل الأكثر إثارة للجدل في الآونة الأخيرة يتمثل في مدى إمكانية أن تؤدي السياسات التقشفية وتداعياتها الاجتماعية واسعة النطاق إلى تحفيز موجة احتجاجية جديدة تؤدي إلى تصاعد عدم الاستقرار بالتوازي مع تزايد نشاط التنظيمات الإرهابية والتفجيرات وأنماط العنف المصاحب لاحتجاجات مؤيدي جماعة الإخوان المسلمين.
وعلى الرغم من الافتراضات النظرية التي تربط بين ارتفاع التكلفة الاجتماعية لسياسات التقشف الاقتصادي وتفجر اضطرابات سياسية واسعة النطاق على غرار انتفاضة الخبز في مصر عام 1977 والاضطرابات المماثلة التي شهدتها دول أوروبية تبنت سياسات تقشفية منذ عام 2012 مثل اليونان وإسبانيا والتظاهرات المعارضة لإجراءات تخفيض دعم الطاقة في دول الإقليم خلال الأعوام التي تلت الثورات العربية مثل الأردن والمغرب والسودان - فإن تسبب إجراءات الانكماش في الإنفاق الحكومي في تصاعد عدم الاستقرار السياسي يرتبط بعدة عوامل أهمها ما يلي:
1- تماسك النخبة: كلما خلت النخبةُ الحاكمة من الانشقاقات والاتجاهات المتعارضة وصراعات السلطة؛ تصاعدت قدرة النظام الحاكم على فرض تكلفة سياسات التقشف على المواطنين، ومن المفترض أن يؤدي الاصطفاف والتعاضد بين شاغلي السلطة السياسية والنخب السياسية المدنية وقطاعات واسعة من الموطنين الناجم عن مواجهة الإرهاب والتصدي إلى محاولات جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها للعودة للسلطة والتحديات الخارجية المتصاعدة لتمرير الإجراءات التقشفية دون أن يتسبب في تصاعد عدم الاستقرار السياسي.
بيد أن إقدام السلطة الحاكمة على فرض التزامات ضريبية ومالية على بعض النخب المركزية مثل رجال الأعمال قد يؤدي إلى تصدع هذا التماسك المرحلي، خاصةً في ظل امتلاك أغلب رجال الأعمال وسائل إعلامية خاصة قادرة على تشكيل توجهات الرأي العام، يرتبط ذلك باجتماع الرئيس السيسي برجال الأعمال في 9 يوليو الجاري، وبث رسائل طمأنة حول عدم اعتزامه الإضرار بنشاطهم الاقتصادي، أو حرمانهم من أرباحهم، أو إجبارهم على التبرع للاقتصاد المصري.
2- تنظيم القطاعات المتضررة: حيث إن برامج التقشف الاقتصادي إذا ما ارتبطت بتقليص منافع قُوى مؤثرة في المجتمع ذات هياكل تنظيمية قادرة على الضغط على السلطة تتصاعد احتمالات عدم الاستقرار، ومن أهم القطاعات الأكثر تنظيمًا النقابات المهنية والعمالية والبيروقراطية الحكومية، وفي ظل التوجهات الحكومية بالتصدي الحاسم للاحتجاجات الفئوية وضعف الهياكل النقابية والمهنية نتيجة تسييسها وتصدعها على إثر سقوط حكم الإخوان المسلمين، فمن غير المرجح أن تتمكن هذه النقابات من الضغط الاحتجاجي على الحكومة لإثنائها عن تمرير إجراءات تقشفية جديدة.
إلا أن بعض الفئات المؤثرة قد تستعصي على تطبيق هذه الإجراءات، خاصةً التي قد تتضرر من فرض الحد الأقصى للأجور مثل بعض القيادات والمتخصصين في قطاعات الاتصالات والبترول، وقطاع من العاملين في المؤسسات المصرفية، وبعض المستشارين في مؤسسات حكومية مثل هيئة قضايا الدولة ومجلس الدولة، وهو ما قد يُثير سخطًا شعبيًّا نتيجة عدم التوازن في توزيع تكلفة الإصلاح الاقتصادي.
3- ثبات القيادة السياسية: يؤدي حسم القيادة السياسية وقدرتها على فرض إجراءات التقشف إلى قدرة النظام على احتواء موجات عدم الاستقرار السياسي، حيث يعتمد الرئيس السيسي على خطاب شعبوي يقوم على المكاشفة، وتقاسم الأعباء، وتوظيف رسائل مثل أن "الخطر يواجهنا جميعا" وأن "إنقاذ الوطن يفوق اهتمامه بالحفاظ على شعبيته" ووجود "عدو داخلي يحاول هدم الدولة باسم الدين" واستدعاء خبرات اقتصاد الحرب الذي تحمله الشعب المصري خلال الحروب المصرية الإسرائيلية، وتوجيه رسائل أخرى لاستنهاض القادرين ماديًّا، والتحذير من الانتهازية والاستغلال، يُضاف إلى ذلك استناد السيسي إلى دعم المؤسسة العسكرية، وتضامن مؤسسات الدولة في دعم سياسات الحكومة.
4- الاعتراض الانتخابي: يؤدي وجود انتخابات برلمانية مرتقبة لتفضيل مختلف القوى والتيارات السياسية المعارضة لتوجهات الحكومة الاقتصادية لاستثمار التداعيات الاجتماعية السلبية لسياسات التقشف لتعزيز فرص فوزها بالأغلبية البرلمانية، ومن ثم عرقلة وتحجيم السياسات الاقتصادية الحكومية دون تحمل تكلفة الحراك الاحتجاجي في ظل تطبيق قانون التظاهر على الناشطين السياسيين، وفي ظل تفكك وضعف الأبنية والهياكل الحزبية القادرة على الاستحواذ على ثقة الناخبين وتخصيص نسبة 77% من مقاعد البرلمان للنظام الفردي، فمن غير المرجح أن تُثمر الآلية الانتخابية عن ضغوط قوية على السلطة التنفيذية لمنع مزيد من إجراءات التقشف الاقتصادي.
ملاحظات ختامية:
على الرغم من المنافع الاقتصادية المتحققة من فرض سياسات التقشف، فإنها لا يمكن اعتبارها سوى معالجة جزئية مؤقتة لا تضمن تصحيحًا مستديمًا لمكامن الاختلال في الاقتصاد الوطني، فالتفاوت بين أسعار الوقود -على سبيل المثال- سيؤدي إلى زيادة الضغط على المصادر الأقل في التكلفة، مما يؤدي إلى خلق أزمات نقص الوقود، وتبديد جانب من المنفعة المتحققة من تقليص دعم الطاقة، ذات الأمر ينطبق على عدم توافر وسائل نقل عام ذات مستوى آدمي تدفع مالكي السيارات الخاصة للتخلي عنها، أو عدم مراعاة الحكومة لتوقيت فرض زيادة أسعار الطاقة في ظل الضغوط الاستهلاكية المصاحبة لشهر رمضان، والافتقاد لآليات ضابطة لارتفاع أسعار السلع والخدمات.
يرتبط ذلك بالافتقاد لوجود قراءة متأنية لتوجهات الرأي العام حول سياسات ترشيد الإنفاق الحكومي، ففي استطلاع للرأي أجراه مركز بيت الحكمة للدراسات الاستراتيجية في أغسطس 2012، أكد غالبية المبحوثين أن سياسة الدعم الحكومي تفتقد للكفاءة، إلا أن حوالي 70% منهم لم يقبلوا بخفض الدعم كحل للمشكلة الاقتصادية، وتزيد هذه النسبة إلى 80% لدى المواطنين ذوي الدخل المنخفض، في المقابل لم تتجاوز نسبة من أيدوا اللجوء للمظاهرات والاحتجاجات ردًّا على تقليص الدعم آنذاك 15% من المبحوثين الأقل دخلا.
وإجمالا يمكن القول إن تطبيق السياسات التقشفية لا بد أن يقترن بعدة مشروطيات اجتماعية كي تحقق أهدافها الاقتصادية: أولها التوازن في توزيع الأعباء بحيث يتحمل ذوو الدخل المرتفع من سكان الحضر العبء الأكبر، في حين يتم توجيه سياسات تعويضية لمحدودي الدخل خاصة في المحافظات الطرفية الأكثر فقرًا. وثانيها يتمثل في العدالة والمساواة وعدم استبعاد بعض القطاعات والمؤسسات الأكثر تأثيرًا ونفوذًا من دفع تكلفة التحولات الاقتصادية. وثالثها يتمثل في تطوير آليات كفئة للرقابة على الأسواق والحد من ارتفاع الأسعار وسياسات هادفة لمنع الاحتكار. ورابعًا توجيه دعم نقدي مباشر للشريحة الأكثر فقرًا في المجتمع، والإسراع في تطبيق سياسات الحدين الأدنى والأقصى للأجور دون تمايزات قطاعية. وأخيرًا يجب أن تتدخل الدولة كمحفز للاقتصاد من خلال مشروعات تنموية عملاقة، وتوجيه ما يتم توفيره من نفقات لإصلاح التعليم الأساسي والتعليم الفني والارتقاء بالبنية التحتية لمعالجة مكامن الخلل الاجتماعي.