يرتبط مستقبل الدول في عصرنا الراهن بنوع الثقافة السائدة في المجتمع. وتزداد أهمية هذه الثقافة في البلاد التي تجتاز مراحل تحول صعب، كما هو الحال في مصر التي أحيت الأسبوع الماضي الذكرى الأولى لانتفاضة 30 يونيو وإعلان خريطة 3 يوليو المستقبلية. وقد حلت هذه الذكرى فيما السؤال مازال مثاراً حول مدى الاستفادة من دروس التجربة المريرة لجماعة «الإخوان» التي كان افتقادها ثقافة الإبداع أحد أهم عوامل فشلها.
لذلك يصبح الحرص على ثقافة الإبداع التي تقوم على إعلاء العقل واحترام دوره النقدي عاملا رئيسياً لتحقيق النجاح وإنجاز التقدم. ومن هنا الأهمية الخاصة لدعم هذه الثقافة الآن تحديداً، ومعالجة العوامل الدافعة إلى انتشار أي نوع من ثقافة الاتباع التي تعطل العقل.
فلا تقتصر هذه الثقافة على اتباع فتاوى وآراء مضت أزمانها، والنقل عنها بلا تفكير والتمترس وراءها، لتعطيل العقل ومصادرة الفكر. فثمة وجه آخر لثقافة الاتباع يظهر عند شيوع خطاب سياسي واحد وتصور أن الخلاص يكمن في الالتزام به وترديده طول الوقت ورفض أي خلاف عليه أو اختلاف بشأنه، على نحو يهدد بتعطيل العقل أيضاً ولكن في سياق آخر.
وليس الميل إلى اتباع خطاب سياسي واحد إلا بعض تجليات الثقافة الشعبوية التي تهدف إلى دمج الشعب كله في إطار واحد. ورغم أن الفشل المتفاوت الذي انتهى إليه أتباع هذه الثقافة في مختلف البلاد التي عرفتها، أدى إلى انحسارها في عالمنا الراهن، يبدو أن قطاعاً في المجتمع المصري يميل إلى إعادة إنتاجها سعياً لضمان الاصطفاف والتوحد في مواجهة الخطر الذي تعرضت له مصر خلال العام الذي حكمتها فيه جماعة «الإخوان»، وتحت ضغط الخوف من ممارسات هذه الجماعة وحلفائها في الداخل والخارج حتى الآن.
لكن المفارقة، هنا، هي أن هذه الثقافة الاتباعية ذات الملامح الشعبوية التي تبدو رداً مجتمعياً على خطر «الإخوان»، قد تؤدي إلى نتيجة عكسية، لأنها قد تحرم من ينبغي أن يواجهوا هذا الخطر من أهم سلاح يملكونه وهو العقل النقدي، أو تضعف قدرتهم على استخدام هذا السلاح، كما قد تهدد بإعادة إنتاج المنهج الذي فشلت بسببه جماعة «الإخوان»، ولكن بطريقة أخرى. فقد استهانت هذه الجماعة بالأثر السلبي لعقود طويلة من ثقافة الاتباع داخل تنظيمها الذي بُني منذ البداية على السمع والطاعة، ومن ثم إلغاء العقل أو تعطيله بدعوى أن في قمة هذا التنظيم من يملك الحكمة المطلقة التي توجب اتباع كل ما يصدر عنه وعدم التفكير فيه. ولم تدرك قيادة الجماعة، التي وقعت أكبر دولة عربية بين يديها في غفلة من الزمن، أن هذه الثقافة تضعف القدرة على إدارة شؤون دولة تعاني مشاكل معقدة ومتراكمة عبر عقود من الزمن. فقد اعتقدت أن قوة التنظيم تغني عن نور العقل، ولم تدرك الأهمية القصوى للقدرة على الإبداع والابتكار والبحث عن حلول خلاَّقة لمشاكل غير تقليدية. لذلك اندفعت باتجاه امتلاك السلطة كاملة والانفراد بها، وسعت إلى الهيمنة على الدولة، دون تفكير في عواقب العجز عن إدارتها نتيجة استهانتها بأهمية العقل.
واشتدت هذه الاستهانة عندما وصلت إلى الحكم بعد تولي الرئيس المنتمي إليها السلطة، حيث بالغت في تجاهل الأثر السلبي لثقافة الاتباع على كوادرها، مثلما لم تقدِّر إمكانات معارضيها من القوى المدنية التي تمتلك عقولا نقدية متحررة. وهذا هو الدرس الذي ينبغي التذكير به في الذكرى الأولى للتحرر من سلطة جماعة «الإخوان».
فقد أغفلت هذه الجماعة أن قوة النقد حين يكون في الصميم يمكن أن تفوق قوة التنظيم. ولم يفهم قادتها أن افتقادهم العقل النقدي بحكم تربيتهم في تنظيم حديدي مغلق قائم على الاتباع، يمكن أن يكون مصدر ضعف شديد الخطر عليهم. وما كان لهم أن يعوا ذلك، وهم الذين استهانوا بأهمية العقل على مدى عقود من الزمن. لذلك لم تصمد سلطتهم في مواجهة النقد المنهجي الذي مارسه أصحاب هذا العقل.
ويمكن تحديد جوهر الدرس، هنا، في أن «الإخوان» تصرفوا عقب فوزهم بالرئاسة بلا عقل، فنجحت المعارضة المدنية في تعرية نظامهم عبر استخدام النقد المنهجي. وظهر الفرق بين سلطة بلا عقل ومعارضة استخدمت عقلها النقدي في كشف أخطار سياسات هذه السلطة على الاقتصاد والمجتمع والأمن القومي. لذلك بدت سلطة «الإخوان» ضعيفة رغم قوة تنظيمها، خاصة أن القائمين عليها لم يقدِّروا الأثر المتراكم للنقد المنهجي الذي بدأته «جبهة الإنقاذ الوطني» منذ تأسيسها في 22 نوفمبر 2012، ثم اتسع نطاقه وصولا إلى انتفاضة 30 يونيو 2013.
ومع ذلك، لم تستوعب قيادة «الإخوان» درس فشلها في السلطة حتى بعد أن ثار الشعب عليها وانحاز الجيش إلى المحتجين. فقد واصلت استهانتها بتداعيات ثقافة الاتباع السائدة في تنظيمها بل سعت إلى ترسيخها لتجنب حدوث انشقاقات قد تترتب على استعادة قطاعات من أعضائه العقل المغَّيب والوعي الغائب. لذلك ظلت تحركات «الإخوان» على مدى عام كامل نمطية تعيد إنتاج نفسها بطريقة سقيمة، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع تأثيرها تدريجياً في غياب القدرة على إبداع أساليب جديدة للمعارضة.
وكم يبدو الفرق شاسعاً بين معارضة القوى «المدنية» لسلطة جماعة «الإخوان» و«المعارضة» التي تمارسها هذه الجماعة الآن. ويكمن هذا الفرق في حضور العقل النقدي في قلب المعارضة التي واجهت سلطة «الإخوان»، وغيابه في معارضتهم الحالية التي تعتمد منذ يوليو الماضي على تنظيم لا يفيد كثيراً في غياب العقل المنهجي الذي يخلق الأجواء الضرورية للحركة الفاعلة والمؤثرة، وإلا صارت هذه الحركة خبط عشواء كما هو حاصل حتى الآن.
لذلك حققت قوة العقل ضد حكم «الإخوان» ما لا تستطيع قوة التنظيم أن تحدثه إلا إذا أُتيح لهذا التنظيم أن يعمل لسنوات طويلة ويتغلغل في المجتمع، مستخدماً مزيجه التقليدي الذي يجمع بين الدين والخدمات الاجتماعية.
وإذا كان تنظيم «الإخوان» غير مؤهل لاستيعاب هذا الدرس الذي يؤكد أن العقل النقدي أهم من التنظيم القوي، فالمفترض أن يكون الوضع مختلفاً بالنسبة للتيارات الليبرالية والقومية واليسارية التي تملك هذا العقل، خاصة أنه ليس لديها حتى الآن غيره في ظل ضعف بنائها التنظيمي.
لذلك تبدو المحافظة على هذا العقل النقدي ضرورة ليس فقط لهذه القوى، ولكن أيضاً لمستقبل مصر الذي يتوقف على انتشار ثقافة الإبداع في المجتمع ولدى مختلف فئاته سعياً إلى ابتكار حلول جديدة لمشاكل متراكمة وإيجاد آليات غير معتادة للتقدم في طريق تكثر فيه العوائق.
-----------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الخميس، 10/7/2014.