الفرصة الأخيرة لمصر لا للسيسى
9-7-2014

أحمد السيد النجار
* رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام المصرية
قراءة تحليلية ونقدية لحركة الأسعار
قدر مصر أنها قلب أمة عملاقة. تنظر إليها كل القوى الاستعمارية وأتباعها قديما وحديثا على أن نهوضها خطر على مشروعات تلك القوى.في المنطقة.
وتريد تلك القوى لمصر أن تمرض وتعاني العوز بشرط ألا تموت حتى يمكن توظيفها بكل ثقلها لتمرير مشروعات تلك القوى بالمنطقة. ولم ولن تعمل تلك القوى على مساعدة مصر على النهوض الاقتصادي-السياسي-الاجتماعي الحقيقي. وبالتالي فإن نهوض مصر لن يكون إلا بالاعتماد على عقول وسواعد وأموال واحتشاد أبنائها إذا أرادوا لبلادهم نهوضا ومكانة ترتقي إلى قيمتها وقامتها الحضارية العملاقة التي تفوق كل ما عداها. وهذا يعني بوضوح أن تحقيق التقدم الحقيقي سوف يكون بالاعتماد على الذات والاحتشاد الداخلي، دون أي انتظار بليد للمساعدات الخارجية. وهذا الاعتماد على الذات الذي ينادي به كل الداعين للاستقلال الوطني، ينطوي في بدايته على درجات من التقشف والعناء. ويتطلب تحقيق مستويات مرتفعة من الادخار والاستثمار المحليين، على حساب الاستهلاك ـ بالذات الترفي ـ وغير الضروري منه. لكنه يتطلب في الوقت نفسه ممن يقودون هذه العملية التنموية أن يعملوا على أن يكون توزيع أعباء الاحتشاد لتحقيق التنمية عادلا، وأن يكون توزيع ثمارها عادلا أيضا، بعيدا عن نظرية "التساقط" الظالمة التي يعتمدها صندوق النقد الدولي كأساس لتوزيع ثمار النمو الاقتصادي، بدعوى أن تلك الثمار تتساقط على كل الطبقات دون حاجة لسياسات اجتماعية واقتصادية فعادة توزيع الدخل.
وللعلم فإن متوسط نصيب الفرد من الدخل في الصين في ثمانينيات القرن العشرين كان يعادل نصف نظيره في مصر، والمفترض والحال هكذا أن يكون معدل الادخار والاستثمار في مصر أعلى. لكن معدل الادخار لديهم كان يزيد على 40% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما بينما تراوح نظيره في مصر بين 10%، و 15%. وكان معدل الاستثمار لدى الصين يترواح فوق مستوى الـ 40%، بينما كان المعدل في مصر اقل من نصف نظيره في الصين. والنتيجة أن الصين حققت قفزتها الاقتصادية العملاقة التي صعدت بها لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم وأكبر قوة مصدرة للسلع في العالم، وأصبح متوسط دخل الفرد فيها ضعف نظيره في مصر في الوقت الراهن.
 
وقد ضاعت من مصر عدة فرص هائلة لتحقيق اختراق اقتصادي يحولها لدولة صناعية متقدمة وغنية خلال القرنين الماضيين. وتبدو مصر في الوقت الراهن مؤهلة مرة أخرى وربما أخيرة للإمساك بفرصة تحقيق هذا الإنجاز. ومن هذا المنطلق لابد أن نتعامل مع مجمل السياسات العامة للحكومة لدفعها دفعا في هذا السبيل للحاق بركب التقدم والتنمية. وبما أن الموازنة العامة للدولة هي التي تعكس السياسات الاقتصادية-الاجتماعية للحكومة، وتعكس انحيازاتها الاجتماعية وقدرتها على تحقيق أهداف التنمية والعدالة، فإن من الضروري تحليلها من هذا المنطلق لدعم ما هو إيجابي فيها وتصويب ما يحيد بمصر عن هذه الأهداف، وهو ما سيتم في المقال القادم، حيث سيقتصر هذا المقال على قراءة وتحليل ونقد القرارات الحكومية الأخيرة من هذا المنطلق ايضا. وتتركز أهم تلك القرارات في رفع أسعار الكهرباء ومواد الطاقة ووضع حد أقصى للأجور لكل العاملين لدى الدولة، وفرض ضرائب على أرباح البورصة، وإضافة شريحة جديدة لضرائب الدخل نسبتها 30% على من يزيد دخله على مليون جنيه سنويا.
 
أليست هذه بعض مطالب الثورة وضرورات العدالة؟!
 
إذا بدأنا بالحد الأقصى للأجور وهو أحد إجراءات تقليل الفوارق بين الطبقات وتحقيق العدالة الاجتماعية، فإن قرار الرئيس فى هذا الشأن هو استجابة حقيقية لكل من طالبوا به وكافحوا من أجله كأحد أسس العدالة فى توزيع الدخول بين العاملين لدى الدولة. وبدلا من الاستخفاف والتربص، فإن كل القوى السياسية التى طالبت بهذا الإجراء، مطالبة بدعم هذا القرار والتأكيد على ضرورة تطبيقه على كل العاملين لدى الدولة من القضاء، وهيئة قناة السويس، والهيئة العامة للبترول وكل شركاتها، والبنوك العامة، والأجهزة الأمنية، والجيش، والصحف القومية. وقد بادرت مؤسسة الأهرام بدون مطالبة حكومية بالالتزام بهذا الأمر، لتقدم نموذجا للمؤسسات الأخرى المملوكة للدولة ولأجهزتها السيادية.
 
وفى إطار الموازنة العامة للدولة للعام المالى 2014/2015، رصدت الحكومة 10,7 مليار جنيه لمعاش الضمان الاجتماعي، مقارنة بنحو 3,2 مليار جنيه فى موازنة العام المالى 2013/2014 التى اعدها الرئيس المعزول والتى كان يستفيد منها 1,6 مليون أسرة. وهذا يعنى أن الحكومة الحالية قد رفعته بنسبة 234%، أو بأكثر من 3,3 مرة من قيمته فى العام الماضي. وهذا الارتفاع الضخم سيمكن الدولة من زيادة عدد المستفيدين من معاش الضمان الاجتماعى ليغطى عددا أكبر من الفقراء فقرا مدقعا. كما سيمكنها من زيادة مخصصات الفرد فى هذا المعاش لتحسين مستوى معيشة من يتلقونه.
 
أما بالنسبة للضرائب على صافى الأرباح فى البورصة بنسبة 10%، مع ترحيل أى خسائر لمدة ثلاثة أعوام لخصمها من صافى الأرباح الذى ستفرض عليه الضريبة، فإنه إجراء أساسى لتحقيق العدالة الضريبية والاجتماعية. وللعلم فإن كل الدول الرأسمالية المتقدمة تقريبا، والغالبية الساحقة من الدول النامية تفرض ضرائب على المكاسب الرأسمالية فى البورصة بمعدلات متفاوتة كلها أعلى من المعدل الذى أقرته مصر.
 
وتشير البيانات الدولية إلى أن الضرائب على المكاسب الرأسمالية المتكاملة فى عام 2011 بلغت نحو 50,8% فى الولايات المتحدة، وبلغت نحو 59,8%، 56,5%، 54,9%، 46,7% فى كل من إيطاليا والدانمرك، وفرنسا، وبريطانيا بالترتيب. وبلغت الضريبة نفسها نحو 43,9% فى البرازيل، ونحو 33,2% فى الهند، ونحو 25% فى الصين.
 
وفى مواجهة الصراخ والعويل الذى أطلقه أصحاب المصالح الأنانية وقنواتهم وصحفهم، فإن كل القوى السياسية المنادية بالتنمية والعدالة الاجتماعية عليها أن تدعم هذا الإجراء وتعمل على مده ليشمل كل المكاسب الرأسمالية بمعدلات معتدلة وبحد إعفاء يراعى مصالح صغار المستثمرين ويدعم مضمون العدالة فى هذا الإجراء. كما أن فرض ضرائب جديدة وكبيرة على الثروات الناضبة، هو أمر مطلوب لاستكمال منظومة ضرائب تتسم بالشمول والكفاءة والعدالة.
 
أما بالنسبة للضريبة على الدخل فقد تمت إضافة شريحة جديدة نسبتها 30% على من يزيد دخله على مليون جنيه. وكان هذا الأمر وما هو أكثر منه أى إضافة شريحة أخرى نسبتها 35% لمن يزيد دخله على 3 ملايين جنيه، هو أحد المطالب المهمة لتحقيق العدالة الضريبية والاجتماعية. وبالتالى فإن كل القوى السياسية التى وضعت هذا المطلب ضمن برنامجها لابد أن تقف ورائه وتدفع فى اتجاه المزيد من تطوير النظام الضريبى ليصبح آلية رئيسية للتمويل العادل للموازنة العامة للدولة وتقليل العجز فيها، ولإعادة توزيع الدخل وتحقيق العدالة الاجتماعية النسبية.
 
ولايجب الالتفات إلى من يرددون مزاعم تأثير تلك الضريبة سلبيا على الاستثمارات الأجنبية التى تتدفق لمصر، لأن تلك الاستثمارات تدفع ضرائب أعلى فى كل الدول النامية والمتقدمة الجاذبة للاستثمارات الأجنبية. وعلى سبيل المثال يبلغ معدل الضريبة على الشريحة العليا من الدخل فى الولايات المتحدة الأمريكية، نحو 35% على الأفراد الذين يزيد دخلهم على 373 ألف دولار فى العام تُدفع للحكومة الاتحادية، فضلا عن نحو 8% فى المتوسط تُدفع لحكومات الولايات، بما مجموعه 43%. أما الضريبة على أرباح الشركات فبلغت نحو 40%. وبلغ معدل الضريبة على الدخل فى اليابان 50% على من يزيد دخله عن 182.1 ألف دولار فى العام، بينما بلغ المعدل على الشركات 41%. وبلغ المعدل فى ألمانيا 45% على الدخل الذى يزيد على 334.5 ألف دولار فى العام، بينما بلغ 29% على الشركات. وبلغ المعدل 40% فى بريطانيا على من يزيد دخله على 66.1 ألف دولار، بينما بلغ المعدل على الشركات 28%. وبلغ المعدل فى الدانمرك 62% على من يزيد دخله الفردى على 62.3 ألف دولار، بينما بلغ المعدل على الشركات 25%. وبلغ المعدل فى الصين التى تعد أكبر دولة ناهضة مستقبلة للاستثمارات الأجنبية وتحتل دائما واحدا من المراكز الثلاث الأولى على العالم فى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، نحو 45% على من يزيد دخله الفردى عن 175.5 ألف دولار فى العام، بينما بلغ 25% على الشركات. وبلغ المعدل فى تايلاند 37% على من يزيد دخله الفردى عن 113.2 ألف دولار، بينما بلغ المعدل 30% على الشركات. وبلغ المعدل فى جمهورية جنوب إفريقيا 40% على من يزيد دخله على 63.3 ألف دولار فى العام، بينما بلغ المعدل 35% على الشركات.
 
وإذا أردنا تقييم هذه المجموعة من التغييرات فى الضربية ونظام الأجور، ومعاشات الضمان الاجتماعى للفقراء، إضافة إلى وضع حد أدنى للدخل للعاملين لدى الدولة حتى لو كان يحتاج إلى الرفع عن مستواه الراهن، فإنه يمكن القول أنها بعض من مطالب ثورة 25 يناير العظيمة وموجتها الثانية الهائلة فى 30 يونيو. وهى مطالب تدفع فى اتجاه تحقيق درجة من العدالة النسبية وتحتاج للتطوير والتعزيز مع تطور وتحرك الاقتصاد المصرى من جموده الراهن.
 
رفع أسعار الطاقة.. الضرورات المالية واعتبارات العدالة
 
وصل العجز فى الموازنة العامة للدولة إلى مستويات لا يمكن لأى اقتصاد أن يحتملها. واعتمدت حكومات الديكتاتور المخلوع مبارك، ومن بعده حكومتا المجلس العسكرى وحكومة الرئيس المعزول د. محمد مرسى على تغطية العجز بالاقتراض الداخلى والخارجي. وتعملق الدين الداخلى ليتجاوز 1,9 تريليون جنيه حاليا. وقفز الدين الخارجى من نحو 34,4 مليار دولار فى منتصف عام 2012 عند بداية حكم الرئيس المعزول، إلى 43,2 مليار دولار عن نهاية حكمه، إلى أكثر من 50 مليار دولار فى الوقت الراهن.
 
وبلغت مدفوعات الفائدة على مجمل الديون نحو 182 مليار جنيه فى موازنة عام 2013/2014 التى أعدها الرئيس المعزول د. محمد مرسى وكانت تعادل نحو 9% من الناتج المحلى الإجمالي، وأكثر من ربع الإنفاق العام للدولة. وبلغت مدفوعات الفائدة فى الموازنة الحالية 199 مليار جنيه. وفى ظل هذه المستويات الهائلة من الديون وفوائدها الضخمة، أصبحت هناك حاجة ماسة لمعالجة جذر المشكلة أى العجز الهائل فى الموازنة العامة للدولة. وأصبحت هذه المسألة قضية وجود بالنسبة للمالية العامة للدولة.
 
وأمام مصر طريقان لمعالجة عجز الموازنة وما تراكم بسببه من ديون داخلية وخارجية. فإما أن تستدين من الداخل والخارج وتكمل مسيرة الفشل والتبعية التى سار على دربها السادات منذ منتصف السبعينيات وأكمل من بعده مبارك ومرسي، وفى هذه الحالة سنتحول سريعا إلى نموذج الدولة الفاشلة المستباحة من كل مقرضيها، بما يجعل وجودها كدولة وطنية موحدة محل تهديد حقيقي، بعد أن تعرض دورها كقوة إقليمية ودولية قائدة إلى أضرار فادحة بسبب اعتمادها على المساعدات الخارجية. والطريق الثانى هو أن تقف مصر بصورة حاسمة لمعالجة هذه القضية بالاعتماد على الذات بما ينطوى عليه من مصاعب وترشيد وحتى تقشف. لكن السير فى هذا الطريق الثانى يتطلب درجة عالية من التحمل والجلد والعدالة فى توزيع الأعباء بصورة تخلق حالة وطنية عامة تدعم دعوة البناء والإصلاح الحقيقي.
 
أسعار الكهرباء.. التغييرات نموذجية للعدالة والكفاءة
 
بالنسبة لأسعار الكهرباء فإن القرارات الجديدة استهدفت خفض دعم الكهرباء من 38,7 مليار جنيه لو بقيت الأسعار كما هي، إلى 27,4 مليار جنيه. ولتحقيق هذا الهدف تم رفع سعر الكيلوواط للاستهلاك المنزلى ليصبح 7,5 قرش لمن يستهلكون أقل من 50 كيلو وات فى الشهر، مقارنة بـ 5 قروش من قبل. كما بلغ السعر 14,5 قروش لمن يستهلكون من 51 – 100 كيلو وات شهريا، مقارنة بـ 10 قروش قبل الرفع. كما تم رفع السعر إلى 16 قرشا لمن يستهلكون من 101- 200 كيلو وات شهريا، مقارنة بـ 11 قرشا قبل الرفع. كما تم رفع السعر إلى 24 قرشا لمن يستهلكون من 201 – 350 كيلو واط شهريا، مقارنة بنحو 15 قرشا فى المتوسط قبل الرفع. وتم رفع السعر إلى 34 قرشا لمن يستهلكون من 351 – 650 كيلو وات شهريا، مقارنة بـ 19,3 قروش قبل الرفع. وتم استحداث شرائح جديدة فبلغ السعر 60 قرشا لمن يستهلكون من 651 – 1000 كيلو وات شهريا، و 74 قرشا لمن يستهلكون أكثر من 1000 كيلو واط شهريا.
 
أى أن سعر الكيلو وات فى الشريحة العليا للاستهلاك والتى تعبر عن أصحاب الدخول المرتفعة، يبلغ نحو 10 أمثال سعره بالنسبة للفقراء الذين يستهلكون أقل من 50 كيلو وات، مقارنة بأقل من 4 أمثال السعر قبل التعديلات الجديدة. وهذا يعنى بشكل قاطع أن قائمة أسعار الكهرباء الجديدة اكثر عدالة من سابقتها، فضلا عن أنها تخفف الأعباء عن الدولة وتحملها للأثرياء وللشرائح العليا من الطبقة الوسطى.
 
كما بلغ سعر الكيلواط فى الشريحة العليا للاستهلاك أكثر من 5 أمثال سعره لمن يستهلكون أقل من 100 كيلو وات، ونحو 4,6 مثل للسعر المقرر لمن يستهلكون أقل من 200 كيلو وات، ونحو 3 أمثال سعره لمن يستهلكون أقل من 350 كيلو وات شهريا.
 
أما المحلات التجارية فسيصبح سعر الكيلو وات 30 قرشا لمن يستهلكون أقل من 100 كيلو وات شهريا، و 44 قرشا لمن يستهلكون أقل من 250 كيلو وات شهريا، وأقل من 59 قرشا لمن يستهلكون أقل من 600 كيلو وات شهريا، و 76 قرشا لمن يستهلكون أقل من 1000 كيلو وات شهريا. و 83 قرشا لمن يستهلكون أكثر من ألف كيلو وات شهريا.
 
ومع تغييرات مماثلة فى السنوات القادمة، تشير خطة وزارة الكهرباء إلى أن الدولة ستتخلص كليا من دعم الكهرباء فى العام المالى 2018/2019، مع إبقاء الأسعار أقل كثيرا من التكلفة بالنسبة للفقراء ومحدودى الدخل. وهذا الأمر سوف يتم من خلال تحصيل أسعار أعلى كثيرا من سعر التكلفة من الأثرياء والشرائح العليا للطبقة الوسطى، واستخدام العائد من هذا البيع للكهرباء بأعلى من سعر التكلفة، فى تمويل دعم الكهرباء للفقراء. وهذا النموذج متميز فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية. وإن كان من الضرورى الإشارة إلى أن الحكومة يجب ان تضع فى اعتبارها أن أسعار الطاقة فى الأسواق الدولية يمكن أن تتغير لأعلى بمعدلات أسرع مما هو مشار إليه فى دراستها، إلا فى حالة توسع الاعتماد على الطاقة الشمسية ونزول تكلفتها إلى مستويات أسعار الكيلو وات التى بنيت الدراسة على أساسها.
 
المواد البترولية.. البدائل والحماية من تبعاتها
 
يعتبر رفع أسعار مواد الطاقة من بنزين وسولار ومازوت وغازـ من أكثر الموضوعات المثيرة للجدل فى قرارات الحكومة الأخيرة. وبداية فإن أسعار البنزين والسولار ثابتة منذ عام 2008، أى منذ ستة أعوام. وخلال هذه الفترة تضاعف الناتج المحلى الإجمالى بالأسعار الجارية والمقدر للعام المالى 2014/2015 ليصبح ثلاثة أمثال قيمته عام 2007/2008. وارتفعت مخصصات الأجور وما فى حكمها للعاملين لدى الدولة من 76,2 مليار جنيه عام 2007/2008، إلى نحو 207,3 مليار جنيه فى موازنة العام المالى 2014/2015. أى أن تلك المخصصات فى الموازنة الراهنة تبلغ قيمتها 2,7 مرة قدر قيمة المخصصات المناظرة عام 2007/2008. وصحيح أن معدلات التضخم فى الفترة المذكورة قد التهمت قسما مهما من هذه الزيادة، إلا أن هناك زيادة حقيقية كبيرة بالذات فى سنوات ما بعد ثورة 25 يناير العظيمة.
 
وبناء على ذلك فإن تضاعفت فاتورة دعم الطاقة الهائلة وتفاقمت وطأتها بعد أن أصبحت مصر تستورد الغاز بسبب توقف بعض شركات الإنتاج بعد الثورة فى ظل عدم سداد مستحقاتها. ومن الطبيعى أن تبحث الدولة عن تخفيض عجز الموازنة العامة للدولة من خلال ضغط الإنفاق على دعم الطاقة. وأدى هذا التخفيض على الفور لارتفاع أسعار المنتجات البترولية والغاز. وأشار رئيس الحكومة إلى أن هذه الارتفاعات تعنى زيادة تكلفة النقل لما يتراوح بين 5% و 10%. وفى هذه الحدود يبدو الأمر مقبولا. لكن الذى حدث فى الواقع أن قطاع نقل الركاب الذى يهيمن عليه القطاع الخاص، رفع تعريفة النقل بين الأحياء والمدن بأكثر من النصف، بل وتضاعف فى بعض المناطق والمدن مما أثار استياء المواطنين ليس بسبب الإجراء الأولى (رفع اسعار مواد الطاقة)، وإنما بسبب تاثيراته السلبية التى لم تحمهم الحكومة منها.
 
كما أنه من غير المنطقى أن تترك الحكومة عملية نقل المواطنين بأيدى القطاع الخاص الذى يتصرف بشكل تسلطى فيما يتعلق بتسعير الخدمة فى غياب الحماية الحكومية. والحكومة مدعوة فورا لاستخدام سلطتها السيادية فى فرض تعريفات عادلة للنقل داخل المدن وبين المحافظات بصورة تخفف الأعباء عن المواطنين، وتعوض أصحاب شركات وسيارات النقل بصورة عادلة عن ارتفاع أسعار الوقود. أما لو تركتهم يستغلون رفع اسعار الوقود فى التربح المبالغ فيه على حساب المواطنينن فإنها تكون بذلك مسئولة عن أى احتقان يمكن ان يُحدثه هذا القرار. كما أن الحكومة لابد وأن تعيد الاعتبار لهيئة النقل العام كناقل رئيسى للركاب، بإضافة أعداد كبيرة من الحافلات (الأوتوبيسات) لأسطول النقل داخل المدن وبينها. وقد صدرت تصريحات متتابعة عن شراء ألف حافلة (أوتوبيس) جديد. وكان من الأفضل أن يتم الدفع بهذه السيارات قبل اتخاذ قرار رفع أسعار البنزين والسولار حتى تعمل كمقدم خدمة كبير يرجح سعر الخدمة فى السوق فى اتجاه يحترم حقوق المواطنين وحقهم فى خدمة معتدلة السعر.
 
كما أن المنطق المتوارث والذى يترك أسعار الوقود ثابتة لفترة طويلة ثم يرفعها بنسبة كبيرة مرة واحدة، هو منطق لا يتسم بالكفاءة، فلو تم تحريك الأسعار بصورة محدودة كل عامين، فإنه سيكون خفيف الوطأة ويمر بسلام.
 
كما أن هناك وسائل مهمة من الضرورى استخدامها لترشيد دعم الطاقة دون الإضرار بالمواطنين. وعلى رأس هذه الوسائل تقديم قروض ميسرة لسيارات النقل والميكروباص لتحويلها إلى العمل بالغاز بدلا من العمل بالسولار الذى يستنزف كتلة عملاقة من الدعم تبلغ قرابة 45 مليار جنيه فى الموازنة الحالية حتى بعد رفع اسعاره. وفى هذه الحالة فإنه حتى لو تم تقديم الغاز المدعوم لهم، فإنه يمكن توفير الغالبية الساحقة من هذا المبلغ. ويمكن العمل على تحويل المخابز وقمائن الطوب للعمل بالغاز الأرخص كثيرا من النفط ومنتجاته (المازوت) بما يخفض مدفوعات الدعم بصورة حاسمة. كما أن وجود 5 مليارات جنيه لاستيراد الغاز ضمن الموازنة العامة للدولة، يحتاج للمراجعة، لأن الأفضل هو سداد مستحقات الشركات العاملة فى هذا القطاع فى مصر والتى توقفت عن العمل بسبب عدم سداد مستحقاتها مما أدى إلى تراجع الإنتاج المحلى رغم ان مصر لديها احتياطيات من الغاز تعادل 13 مليار برميل من النفط، فضلا عن الاحتياطيات المحتملة الكبيرة فى المياه الإقليمية لمصر.
 
وكان من الممكن أن تعتمد مصر على نظام الكوبونات مع رفع محدود للأسعار، بحيث يتضمن الكوبون أو كارت الشحن عددا محددا من اللترات المدعومة حتى بعد الرفع المحدود للأسعار. وما يتم استهلاكه أعلى من تلك الكمية سنويا، يتم شراؤه بالسعر العالمى الحر تماما. كما أن من يملك اكثر من سيارة لا يحصل إلا على كوبونات لسيارة واحدة، بينما يكون ملزما بشراء احتياجاته للسيارة الثانية بالأسعار العالمية الحرة. ومثل هذه الطريقة الأكثر عدلا يمكن أن تحقق تخفيضا أكبر لدعم الطاقة.
 
الاعتماد على الذات هو المنقذ لمصر
 
كما ورد فى البداية فإن قدر مصر هو أن تعتمد على ذاتها وعلى سواعد وعقول وأموال واحتشاد أبنائها، إذا أرادت تحقيق النهوض والتقدم. فكل تجاربها للنهوض لم تجد من الغرب سوى محاولات انقضاض عدائية. فقد تعرضت مصر لانقضاض استعمارى على كل مشروعات النهوض الحضارى والاقتصادى والعسكرى لمصر فى عهد محمد على ونجله إبراهيم باشا مؤسس العسكرية المصرية الحديثة وقائد أعظم انتصاراتها التى وصلت بها إلى سحق جيش العثمانيين واستسلام أسطولهم بالكامل فى الإسكندرية ودق أبواب عاصمتهم اسطنبول. وانتهى الأمر بتواطؤ أوروبا كلها لتقزيم مصر وتحطيم مشروع محمد على لتوحيد المنطقة تحت قيادة مصر.
 
وقاومت تلك القوى مشروع تحديث مصر فى عصر إسماعيل الذى شق الترع وبنى قلب القاهرة الحالى ومشروع قناة السويس وتوسع جيشه حتى المديرية الاستوائية فى قلب إفريقيا، وأغرقته تلك القوى فى ديون انتهت بالعدوان على مصر واحتلالها.
 
وقاوم الاستعمار بصورة أشد ضراوة، مشروع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذى بنى لمصر أعظم صناعاتها التحويلية وحولها إلى أكثر الدول النامية تقدما سابقة على كوريا والهند وتايلاند وإندونيسيا وماليزيا وكل نمور شرق آسيا. وقاد الشعب لبناء سد مصر العالى الذى أختير عالميا كأعظم مشروع للبنية الأساسية فى القرن العشرين، والذى نقل الزراعة المصرية نقلة هائلة، وأخرجت الكهرباء المولدة من محطته الكهرومائية الريف المصرى من ظلام عشرات القرون. ونشر التعليم والرعاية الصحية مجانيا، ووصل بتشغيل قوة العمل إلى أعلى المستويات، وجعل التنوير والعلم والعمل والادخار قيما حاكمة فى الترقى الشخصى وفى بناء مجد الأمة. وكان نصيب مشروعه عدوانا استعماريا ثلاثيا دنيئا من بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيونى عام 1956، وعدوانا أشد غدرا ودناءة من الكيان الصهيونى بدعم أمريكى هائل فى عام 1967، حيث تعرضت مصر لهزيمة مرة كالعلقم. لكنه على عكس سابقيه لم يستسلم وقاد مصر فى واحدة من أعظم معارك البطولة والشرف فى حرب الاستنزاف، وترك لها جيشا جديدا قادرا على إذهال العالم فى الثلاثة أيام الأولى من حرب أكتوبر 1973.
 
وحصل الرئيس السادات على فرصة هائلة من خلال سيل المنح والمساعدات العربية التى تلقاها بعد حرب أكتوبر التى أدت لرفع أسعار النفط وفتح بوابات الثراء الخليجى على مصاريعها. لكنه لم يحقق إنجازا اقتصاديا يتناسب مع تلك المساعدات. وفتح مصر لكل المتطرفين دينيا والإرهابيين الذين انقلبوا عليه فيما بعد وقتلوه فى النهاية. وفتح مصر أيضا للمغامرين والنهابين فى الداخل والخارج، وتجمدت الصناعة التحويلية وانتعشت كل القطاعات الطفيلية والأقل أهمية للنهوض الاقتصادي. وترك مصر عند مقتله معزولة عربيا وتابعة للغرب ومكبلة بالديون ومضطربة اقتصاديا بعد تبدد أوهام الرخاء الذى وعد بتحقيقه بحلول عام 1980.
 
أما مبارك فقد حصلت مصر فى الثمانية أعوام الأولى من عهده على مساعدات خارجية كبيرة، لكنه واصل سياسات سلفه وتعملق الفساد فى عهده، ولم يرد الاعتبار للصناعة التحويلية القائمة على الخامات المعدنية والمحجرية والزراعية والعالية التقنية التى هى المدخل الحقيقى لنهوض مصر، فاستمر الاقتصاد المصرى يتخبط فى الاختلال وبطء النمو. ووصلت مصر فى عهده إلى حالة سكانية مثالية حيث أصبحت الكتلة الرئيسية من السكان فى سن العمل. وفى العادة تحقق أغلب الدول قفزتها الاقتصادية فى مثل تلك الفترات. لكنه ضيع عقدين تقريبا من هذه المرحلة بترك قوة العمل نهبا للبطالة، بل وتحويل أعداد ضخمة من العاملين إلى عاطلين بعد الخصخصة الفاسدة للقطاع العام والمعاش المبكر. وأدت سياسته الاقتصادية-الاجتماعية الظالمة، وتفشى التعذيب والقمع إلى حشد كم هائل من الاحتقانات الاجتماعية التى أدت فى النهاية إلى انفجار الثورة المصرية الكبرى فى 25 يناير ضد حكمه وأسقطته.
 
وختاما فإن الاستقلال الوطنى المصرى والاعتماد على الذات فى تحقيق التنمية وتوزيع ثمارها بصورة عادلة على المواطنين، يتطلب درجة عالية من التعبئة والاحتشاد من الشعب بالادخار والاستثمار. ويتطلب أيضا من الرئيس والحكومة درجة عالية من الحماية للشعب وللمستهلكين من التبعات الظالمة وغير المبررة التى تنجم عن سوء استغلال البعض لأى قرار سيادى كما حدث بشأن ارتفاع أسعار الوقود. ويتطلب ايضا التعامل السياسى العادل مع أبناء الأمة بالذات من تعرضوا للمحاكمة بسبب قانون التظاهر المقيد للتظاهر السلمى والذى يحتاج للمراجعة من الرئيس لبناء توافق وطنى من كل المكافحين من أجل الحرية والكرامة الإنسانية والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني.
 
كما يتطلب من الجميع إدراك أن كل عام يمضى هو عام ضائع غير قابل للتعويض نهائيا، لأن مصر التى تملك كتلة سكانية يقع معظمها فى المرحلة العمرية القادرة على الإنتاج حاليا، لن تستمر كذلك طويلا، وهذه الفترة هى التى حققت فيها أغلب الدول قفزاتها الاقتصادية قبل أن يتجه تكوينها السكانى للشيخوخة.
 
------------------------------
* نقلا عن الأهرام المصرية، الثلاثاء، 8/7/2014.

رابط دائم: