نتحدث جميعاً عن مشكلات مصر المعقدة، وأزماتها المستعصية، وعن الحل أحياناً في إطار الحلقة الشريرة للعلاقة بين الزيادة السكانية ومعدل نمو الناتج القومي كل عام، ويبحث الخبراء الاقتصاديون في الأمر، ويردد الزعماء السياسيون الشعارات بالأماني الطيبة والأحلام الوردية، ومصر تراوح مكانها ولا تستطيع الفكاك من قبضة الفقر والجهل والمرض، ذلك الثالوث الذى شخصه المصريون منذ أكثر من قرن من الزمان، بينما الأمر عندي شيء مختلف، فلنفتح عقولنا وقلوبنا لاستقبال الحقيقة مهما كانت قاسية، وهي باختصار أن مشكلاتنا ليست في التعليم والعشوائيات والرعاية الصحية وغيرها من القضايا الظاهرة للجميع ولكن المشكلة تكمن - في نظري - في الإنسان المصري ركيزة التغيير وجوهر التطور وبؤرة الإنتاج والإبداع معاً، إننى أشعر كثيراً أن الذي تراجع لدينا في العقود الأخيرة ليس معدل النمو الذي تبتلعه الزيادة السكانية ولا العشوائيات التي يقطنها الملايين، كما أنها ليست في الصراع السياسي المحتدم ولا في المخاطر التي تهدد الأمن القومي المصري، وما أكثرها بدءاً من احتمال دخولنا في مرحلة الندرة المائية وصولاً إلى الحرب في سيناء مروراً بالمخاطر على حدودنا الغربية والجنوبية، ولكن مشكلة المشاكل وجوهر "المحنة المصرية الكبرى" هي الإنسان ذاته، ولعلنا نفصل هنا ما نريد الوصول إليه من خلال النقاط التالية:
أولاً: إن الأمم التي نهضت والشعوب التي تقدمت إنما اعتمدت على العامل الإنساني بالدرجة الأولى، فقد تكون لدى الدولة موارد طبيعية وفيرة وإمكانات مادية هائلة، ولكنها تفتقر إلى الموارد البشرية إذ ليس لديها من هم قادرون على تكوين العقل الجمعي ودفع روح الأمة، لذلك يتعين أن يكون تركيزنا على العامل الإنساني تركيزاً بغير حدود، فالعامل البشري هو قائد التطور وهو محرك التاريخ، ولعل جزءاً كبيراً من محنة مصر الحالية إنما يوجد نتيجة لتراجع نوعية المصري في ظل أحداث كثيرة ازدحمت فوق سماء الوطن عبر العقود الأخيرة ضاعت في غمارها كثير من الميزات التي كان المصريون معروفين بها، وسيطرت على حياتنا موجات من الجمود والتخلف كان من نتائجها أن غابت مصر وانحسر دورها وتراجعت مكانتها فاضطرب سلوك الناس وامتد الانفلات الأمني ليصبح انفلاتاً أخلاقياً، لأننا لم نبن الإنسان سيد الكون وصانع الإنجازات، ولعلنا نتدارك الآن هذه المعاني ونأتي للمصريين بما يمكن أن يأخذ بيدهم نحو آفاق أفضل وأبعاد أرحب .
ثانياً: إن التعليم هو بوابة المستقبل وهو المدخل الوحيد إلى مجتمع أفضل ولدولة عصرية حديثة تقوم على البحث العلمي والابتكار وتخليق الأفكار البناءة التي تؤدي إلى ظهور الإنسان السوي المسلح بالعلم، والمتميز بالأخلاق، ولذلك فإن محنة الوطن بدأت مع تراجع النظام التعليمي أي تراجع نوعية الإنسان المصري، ولست أقصد هنا من حيث الذكاء أو معدل الاستيعاب فتلك طفرات طبيعية تمضي مع حركة الزمن، ولكن الذي حدث هو أن النظام التعليمي تهاوى ولم يتمكن من تقديم نوعية متميزة بأعداد كافية تكوّن كوادر للتنمية أو الديمقراطية، ويكفي أن نتذكر هنا أن خريجي التعليم المتوسط عاجزون تقريباً عن القراءة الصحيحة أو الكتابة السليمة فضلاً عن بعض خريجي الجامعات والمعاهد العليا ممن لايعرفون أولويات العمل المهني ولا يتقنون لغة أجنبية، لذلك فإن الخيبة الكبرى هي ما جرى لمدارسنا وجامعاتنا في العقود الأخيرة، خصوصاً أن ريادة مصر تركزت تاريخياً على القوى الناعمة التي تملكها بدءاً بالتعليم مروراً بالثقافة وصولاً إلى الأزهر الشريف والكنيسة القبطية ومازلنا نواجه حتى الآن تراجعاً لدورنا الإقليمي .
ثالثاً: إن غياب الرؤية وفقر الخيال هما ظاهرتان تعكسان حالة الجفاف "الفكري" و"السياسي" و"الثقافي" التي تعانيها مصر الآن، إذ إن الجامعات لم تعد تضخ عناصر متميزة بنفس القدر الذي كانت عليه من قبل فضلاً عن الزيادة السكانية المهولة التي تمثل زيادة في العدد ونقصاً في النوعية، فأصبحنا أمام مؤشرات خطرة لاستمرار "الحلقة الشريرة" الناجمة عن غياب التخطيط وافتقاد الرؤية، فلم نعد قادرين على النظر إلى المستقبل بعيني "زرقاء اليمامة" كما هي الشعوب الواعية عندما تستشرف مستقبلها، بل أصبحنا أسرى الأفكار المتخلفة والمعتقدات البالية حيث طغت الخرافة على العلم ولم يعد لدينا ذلك الخيال المتوهج الذي يضيء الطريق نحو المستقبل . . حالة عجز مؤلمة نجمت عن تجريف الكفاءات وتحطيم أصحاب العقول من الموهوبين أو البارزين في المجالات المختلفة .
رابعاً: إن ما نطلق عليه "فلسفة الزحام" الناجم عن مشكلة الأعداد الكبيرة إنما هي مؤشر لما نعانيه ولا نستطيع الإمساك به أو الخروج من دائرته، وقديماً قالوا إن الدكتاتوريات تولد من رحم الزحام، فالأعداد الضخمة هي التي تولد الضغوط التي تؤدي بدورها إلى ظهور الاستبداد وتوطين الفساد وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية التي عاناها المصريون عبر السنين، ولذلك فإن من يتساءلون قائلين إن التنمية في مصر أقل من مستواها المطلوب وإن الديمقراطية أيضاً تبدو دون طموحات من يحبون مصر فالإجابة ببساطه هي أن مصر، استسلمت لنظرية الأعداد الكبيرة وأغفلت النوعية في زحام الكمية .
خامساً: إن "التخلف السياسي" و"الضعف الاقتصادي" و"العجز الإداري" تبدو كلها مؤشرات تصب في مكونات المحنة الكبرى للوطن المصرى، ويجب أن نتذكر هنا أن المصريين قد تحدثوا كثيراً من قبل عن المستقبل بصورة حالمة أكثر منها واقعية، فنحن بارعون في البدايات، ولكن لا نستكمل الطريق، ألم نتحدث في خمسينات وستينات القرن الماضي عن الدولة النووية (مشروع صلاح هدايت)؟ دولة الفضاء (القاهر والظافر)؟ (الثورة الخضراء لاستصلاح الصحراء)؟ (الثورة الإدارية ونسف الروتين)؟ تلك نماذج لأفكار طرحناها ومشروعات بدأناها، ولكننا لم نكمل الطريق وتوقفنا عند البدايات، بينما كان الأوجب علينا أن نمضي في طريقنا بجدية نحو المستقبل واستمرارية إلى الأمام ولكننا لم نفعل ذلك، وهنا أجدني مضطراً إلى المقارنة بيننا وبين "دولة الهند" عندما كنا نقف على خط واحد في ستينات القرن الماضي فأين هم الآن وأين نحن؟
إن الشعب الجاد والأمة الرصينة هما القادران على مواجهة الأزمات الحادة والمشكلات المستعصية والخروج من مأزق المحنة الكبرى .
-------------------
* نقلا عن دار الخليج، الثلاثاء، 8/7/2014.
رابط دائم: