عندما صوتت الشعوب الأوروبية لمصلحة معاهدة ماستريخت في فبراير/ شباط من العام 1992 لم تفعل ذلك فقط من أجل العملة الموحدة . كان هناك أيضاً ركن ثان أساسي للمعاهدة هو إقامة سياسة أمنية، دفاعية مشتركة، في وقت كانت فيه يوغسلافيا، في قلب أوروبا، تغرق في أتون حرب أهلية مدمرة . واليوم بعد أن رأت العملة الموحدة (اليورو) النور ولحقها "الاتحاد المصرفي" في منطقة اليورو منذ مطلع العام الجاري، يمكن القول إن الهدف أو الركن النقدي للاتحاد قد بات حقيقة واقعة وثابتة . في المقابل فإن الركن الأمني المسمى "السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة" الذي ركزت عليه معاهدة لشبونة، العام ،2007 لا يزال بعيد المنال .
فالبحر المتوسط الذي تم تطهيره من القراصنة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، عاد ليغدو بحر كل أنواع التهريب . صحيح أنه لم يعد هناك برابرة يفتشون السفن الجَنَوية بحثاً عن ركاب يبيعونهم في أسواق النخاسة، ولكن هناك ربما ما هو أسوأ: مهربو البشر الذين ينظمون الهجرات غير الشرعية نحو السواحل الأوروبية . لا يهم لهؤلاء المجرمين أن تغرق "حمولاتهم" من البشر بعد أن يكونوا قد حققوا أرباحاً خيالية (ألف دولار للرأس الواحد في قعر مركب مهترىء بين الساحل الليبي وجزيرة لامبادوزا الإيطالية) . ولا يأبه تجار الاحلام هؤلاء أن يفشل زبائنهم (خمسة آلاف دولار للفرد ثمناً للرحلة من كابول إلى أثينا مروراً بتركيا) بالاندماج لاحقاً في مجتمعات أوروبية تضربها الأزمات مثل الشوفينية والعنصرية والبطالة .
ظاهرة الهجرة غير الشرعية من الجنوب إلى الشمال ليست حديثة وهي تشمل العالم كله، وبالتالي فإن هذا الدفق الهائل للمهاجرين من شمال إفريقيا إلى أوروبا غداة "الثورات العربية"، لم يكن من الصعب توقعه .
فالزعماء العرب الذين أطيح بهم في ربيع العام 2011 كانوا ممن وقعوا اتفاقيات مع أوروبا لمحاربة هذه الظاهرة، وقد حققوا نجاحات لافتة في هذا المضمار . وكان من الطبيعي أن تفلت الأمور بعد رحيلهم على خلفية الفوضى التي قامت بعد الاطاحة بالنظام القديم من دون أن يقوم نظام جديد محله .
لماذا إذن لم تفكر بروكسل في الاستعداد لمثل هذه الظاهرة التي تشكل اليوم لمعظم دول الاتحاد الأوروبي مشكلة حقيقية لها انعكاسات على المشهد السياسي الداخلي في كل من هذه الدول عبّر عنه الصعود المخيف للأحزاب الشوفينية المتطرفة فيها؟
هناك قبل كل شيء الصراع التقليدي القديم بين منطقين في بروكسل، المنطق الاتحادي والمنطق الحكوماتي . والسياسة النقدية تخضع للأول فالمصرف المركزي الأوروبي هو من يهتم بها . فعندما قرر حاكم هذا المصرف، الإيطالي ماريو دارغي، تقديم مبلغ ألف مليار يورو كقرض بفائدة واحد في المئة إلى مصارف منطقة اليورو بهدف حمايتها من رياح الأزمة المالية التي هبت من الولايات المتحدة، عارضه الألمان لكنه أصر على قراره ونفذه رغم ذلك فأنقذ النظام المصرفي الأوروبي من كارثة محققة .
لكن السياسة الأمنية والدفاعية تخضع لمنطق حكومي يفرض موافقة مجلس الاتحاد الأوروبي (المكون من ثمانية وعشرين وفداً) على كل مبادرة، وهذا يتطلب وقتاً طويلاً . ففي 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2010 أقر المجلس استراتيجية كاملة لمنطقة الساحل .
وقتها كان الاتحاد الأوروبي قلقاً من تنامي شبكات تهريب المهاجرين والمخدرات والصعود المتنامي لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي . لكن الاتحاد لم يتوقع انفجار الثورات العربية في شمالي إفريقيا في بداية العام 2011 ثم التدخل العسكري الفرنسي -البريطاني والأمريكي في ليبيا في مارس/ آذار 2011 . هذا التدخل كسر الجدار الحديدي الذي سبق وبناه القذافي في وجه شبكات تهريب المهاجرين نحو أوروبا . وقد طالبت باريس الاتحاد الأوروبي بأن يتحرك على وجه السرعة لوضع استراتيجية جديدة لمواجهة هذا الأمر انطلاقاً من ليبيا . لكن بسبب بيروقراطية بروكسل كان ينبغي انتظار 22 مايو/ أيار 2013 حتى تنشأ أخيراً بعثة أوروبية خاصة لمساعدة طرابلس في السيطرة على حدودها البحرية الممتدة أكثر من ألفي كيلومتر، وهذا أمر في غاية الصعوبة .
لقد وافق المجلس الأوروبي، في ديسمبر/ كانون الأول ،2013 على إعادة النظر في السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة، وذلك في اتجاه اعطاء الأولوية للأمن في البحر المتوسط نتيجة التهديدات الناشئة عن تغير الأنظمة في بعض الدول العربية المشاطئة له . لكن الحلول الأمنية الأوروبية وحدها لا تكفي فالحدود البرية والمائية بين الدول لم تعد عصية على المتسللين نظراً لوجود شبكات داخلية وخارجية تمتلك إمكانات لوجستية ومهاجرين مستعدين للمخاطرة بحياتهم سعياً وراء وهم أو سراب يخلصهم مما يعيشون فيه من بؤس في أوطانهم . المسألة تتطلب جهوداً اقتصادية وسياسية واتفاقات دولية غير متوفرة في وقت تعبر فيه ما يسمى "دول الربيع العربي" ظروفاً انتقالية غاية في الصعوبة . وعلى أوروبا التي تشكل ظاهرة الهجرة هذه تهديداً لاستقرارها أن تعمل على مساعدة هذه الدول على عبور هذه الظروف نحو تحول ديمقراطي فيه خير للجميع على ضفتي المتوسط .
--------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، الأحد، 22/6/2014.
رابط دائم: